محمد ضراغمة.. سنوات السجن والشقاء جعلته صحافيًّا لامعًا
2014-04-18
• عريقات درسني في الجامعة، ومِتْسْناع وبراك فرضا الإقامة الجبرية عليّ.
• للصحافة الفلسطينية جذور سياسية، وهي لم تتجاوز ذلك نحو المهنية بعد.
• من الواضح أن وسائل الإعلام العربية لا تعكس الواقع في العالم العربي، إنما تشارك في صياغة هذا الواقع.
إذا ما سألنا فلسطينيًّا عن الأسماء اللامعة في مجال الإعلام، سيكون الزميل محمد ضراغمة من الأسماء المطروحة، بل سيتصدر لائحة الأسماء أيضًا. شق الزميل ضراغمة طريقه إلى الإعلام من طوباس، في الأغوار الشمالية، وقد بدأ حلمه بالعمل الصحافي يتكون في سجون الاحتلال، هناك كانت أولى كتاباته، وهناك طور قراءاته ليلتحق بالتعليم الجامعي، ليكمل طريقه بعدها إلى أول صحيفة وصولًا إلى وكالة الأنباء الأجنبية AP. في هذا اللقاء حاورنا الزميل ضراغمة؛ يمكن القول إن الحديث كان عبارة عن مناورة شائقة بين الإعلام والسياسة. حدثنا محمد عن مشواره الإعلامي، المشقات والتحديات التي واجهته ولا زالت تواجهه، ولم يخف عنا قلقه من وضع الإعلام ومن سقف الحريات في فلسطين بشكل عام.
بطاقة تعريف، عريقات درسني في البيت وحساب مفتوح مع مِتْسْناع وبراك
حدثنا ضراغمة عن نفسه قائلًا: أبلغ اليوم من العمر 50 عامًا، أنا من مواليد طوباس، شمالي الأغوار، وبلدي زراعية. الحلم بالعمل الصحافي بدأ في جيل صغير نسبيًّا، خاصة بعد أن سجنت مدة عام في السجون الإسرائيلية. في سن الـ 17 سُجِنْتُ أول مرة، وفي تلك الفترة قررت التوجه نحو الصحافة، حيث بدأت داخل السجن بتطوير مهارات التعبير والكتابة، وتعلمت اللغة الصحافية وتدربت عليها.
بعد تحرري من السجن قررت أن أبدأ تعليمي الجامعي، في حينه لم تدرس جامعاتنا الصحافة فاتجهت نحو العلوم السياسية، كنت متخوفًا طوال الوقت من ألّا أنهي تعليمي الجامعي، وحتى اليوم أنا مستغرب من ذلك. اعتقلت خلال فترة تعليمي إداريًّا مدة عام تقريبًا، وخضعت لإقامات جبرية في البيت مدة سنة ونصف، ما أعاق وصولي إلى الجامعة واستكمال تعليمي، لكن بفضل الأستاذة الذين كانوا يدرسونني في البيت، ومنهم صائب عريقات الذي علمني في حينه علاقات دولية، استطعت أن أنهي اللقب الأول في العلوم السياسية من "جامعة النجاح".
في الجامعة كنت ناشطًا ورئيس كتلة طلابية، الأمر الذي لم يرق لقادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، والذين كانوا يديرون الضفة الغربية، مرة إيهود براك ومرة عِمْرامْ مِتْسْناع، والمفارقة أن مِتْسْناع صار بعد ذلك حمامة سلام، وبراك حاول أن يكون لكنه أخفق. ذات مرة أجريت مقابلة صحافية مع مِتْسْناع في مقر المقاطعة برام الله، وأبلغته نهاية المقابلة أنني أحتفظ بذكريات سيئة عنه، فرد قائلًا: "قادة الجيش الإسرائيلي لهم تجارب سيئة هنا، وهذا هو سر نزوعهم إلى السلام بعد الخدمة العسكرية." لربما كانت هذه وسيلة للتكفير عن ذنوب اقترفوها معي ومع آخرين!
معاش.. ألف شيقل وبداية المشوار
عن مشواره الصحافي قال ضراغمة: بعد تخرجي من الجامعة لم أجد وسيلة إعلام أعمل بها أو أي وظيفة أخرى، فعملت بائع خضار وبائع دجاج، ثم عثرت على فرص متواضعة للعمل الصحافي، منها في صحف "كل العرب"، و"البيارق"، و"الاتحاد" في الداخل الفلسطيني.
عام 1993 كانت بدايتي الفعلية في عالم الإعلام والصحافة، حيث بدأت العمل في صحيفة "القدس"، بعد فترة تجريبية سريعة وظفني صاحب الجريدة، الراحل محمود أبو الزلف، براتب شهري قدره 1000 شيقل، كان أول راتب شهري منتظم أتلقاه في حياتي؛ كان مبلغًا متواضعًا لكنه كان مبهجًا، وكان كافيًا لي ولزوجتي، حيث سكنا في غرفة في بيت أهلي. عام 1995، عرض علي الأستاذ أكرم هنية، رئيس تحرير صحيفة "الأيام"، العمل في الصحيفة التي كان يعمل على تأسيسها بعد أن أثارت إعجابه القصص الصحافية التي كنت أكتبها في صحيفة "القدس"، وقد عرض علي ضعف الراتب مع مصاريف المكتب، فكانت قفزة كبرى في حياتي المهنية والمالية أيضًا.
من "الأيام" توجهت إلى وكالة الأنباء AP، حيث عملت بداية نصف وظيفة، وعام 2000 بدأت العمل معهم في وظيفة كاملة مراسلًا للضفة الغربية وغرة، لأتحول بعد ذلك إلى مراسل إقليمي، فعملت على تغطية الأحداث في مصر وسوريا والعالم العربي ككل.
الصحافة الفلسطينية، هامش الحريات ضيّق وجذور سياسية
التحول إلى الإعلام الغربي لم يأت من فراغ بالنسبة لضراغمة، وهو يقول مقيّمًا وضع الحرية في الصحافة الفلسطينية: الصحافي الفلسطيني مُقَيّدٌ في كتاباته، فهامش الحرية للإعلام الفلسطيني ضيق جدًّا، ومن الأجدر قبل الحديث عن حرية العمل الصحافي التطرق إلى الصحافة الفلسطينية نفسها.
للصحافة الفلسطينية جذور سياسية، وهي لم تتجاوز ذلك نحو المهنية بعد، هناك الكثير من السياسة والقليل من المعلومات، الكثير من الدعاية والعلاقات العامة والقليل من المعلومات المهمة عما يجري في بيتنا. لكي تقدم منتجًا صحافيًّا للجمهور عليك أن تقدم له المعلومات الأكثر أهمية عما يجري في المؤسسة بالبيت، وأن تتعامل معه متلقّيًا واعيًا، يمكنه الحكم على الأحداث، وفي أحيان أخرى عليك أن تقدم له التحليلات المبنية على المعلومات. ما يحدث في صحافتنا الفلسطينية هو أن السياسيين يستخدمون الإعلام، والإعلام مرتاح للنوم مع السياسة في فراش واحد. السياسيون رسموا حدودًا للحريات الإعلامية لا تتجاوز التصريحات الرسمية، حرموه من أداء دور رقابي، لذا لا يوجد لدينا إعلام يفتح ملفات الإدارة، والفساد، والتوظيف، والترقيات، وتناقض المصالح بين الوظيفة العمومية والوظيفة الخاصة؛ الوزراء والمسؤولون يخترقون القانون علنًا والصحافة تتجاهل، فقط "الفيسبوك" يكتب..
إلى جانب سطوة السلطة السياسية هناك سطوة للسلطة المالية أيضًا على الإعلام الفلسطيني، وهذا يؤثر على حرية الإعلام ومصداقيته، هناك تحالف سياسي اقتصادي لاستخدام الإعلام وحصر دوره في الترويج.
والإعلام أيضًا منقسم تبعًا للانقسام السياسي، الإعلام استنسخ الانقسام الفلسطيني، لدينا إعلام في غزة مع سلطة غزة، وإعلام في الضفة مع سلطة رام الله.
لتجاوز هذه الإشكالية علينا التعلم من الإعلام المعلوماتي في الغرب، الذي نجح في ردع السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال، وأداء دور إخباري ورقابي.
الحرية الإعلامية والصحافية تتحقق مع تجاوز إعلامنا الفلسطيني للخط السياسي وتقديمه للجمهور الفلسطيني معلومات إخبارية حقيقية ومهمة ودقيقة، مع أدائه دورًا رقابيًّا.
الخط الأحمر في الإعلام الغربي والتعامل مع المصطلحات
وردًا على سؤالنا عن السياسة والحريات في الإعلام الغربي، قال ضراغمة: في الحديث عن الحرية الصحافية، أنا أقر هنا أنني أتمتع بحرية كبيرة في عملي، لا يوجد أي قيود على أي خبر طالما أنه صحيح؛ الواقع أمامي مفتوح للتغطية الصحافية دون قيود أو شروط، أنا أغطي الموضوعات التي أختارها، وتغطيتي للحدث تظهر كما هي في الواقع، وهذا الفرق بين الإعلام العربي عمومًا وبين الإعلام الغربي، والذي يعد جزءًا من المنظومة الثقافية الغربية المؤمنة إلى حد بعيد بالحريات والرأي الآخر، وتسعى إلى فرض توازن في التغطية الإعلامية.
قد يتساءل البعض: إذًا لما الإعلام الغربي أقرب إلى المفاهيم الإسرائيلية ومتأثر بها؟ وجوابي أن هذا يعود إلى كون إسرائيل جزءًا من المنظومة الثقافية والسياسية الغربية، بما فيها الإعلام. الإعلام الغربي إعلام معلوماتي، لكن التأثير الثقافي يظهر في الخلفية، فتجد صحافيًّا غربيًّا يكتب كل يوم أن "حماس" لا تعترف بإسرائيل وأنها قتلت مئات الإسرائيليين في عمليات انتحارية، بينما لا يفعل الشيء ذاته عندما يذكر القادة الإسرائيليين الذين قتلوا مدنيين فلسطينيين، والأحزاب الاسرائيلية التي لا تعترف بدولة فلسطينية.
وتجد صحافيًّا غربيًّا آخر متأثرًا بالإعلام الإسرائيلي يكتب في رسالته الإخبارية أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية يبلغ 350 ألفًا، مسقطًا من الحساب القدس الشرقية التي تضم 200 ألف مستوطن، وهي أرض فلسطينية محتلة! أو يصف مستوطنة "غيلو" المقامة في القدس الشرقية بأنها حي يهودي وليس مستوطنة، تمامًا كما يظهر في الصحافة والسياسة الإسرائيليتين.
وهناك أيضًا عامل آخر، هو التفاعل الإسرائيلي مع وسائل الإعلام الغربية عبر توجيه رسائل لها من عدد كبير من الأفراد والمؤسسات، وتقديم الاعتراضات والشكاوى، وهو ما لا يفعله الفلسطينيون والعرب عامة. إن المحرر الذي يتلقى سيلًا من الرسائل سيتأثر بها بالتأكيد، وفي حال عدم تلقيه اعتراضًا على تغطيته من الجانب العربي فإنه سيستمر فيها.
رغم ما ذُكِرَ أعلاه، فمن خلال تجربتي الشخصية، كل الأخبار التي كتبتها لم تتغير في التحرير، وقد استعملت المصطلحات المتعارف عليها مهنيًّا.
القنوات العربية فشلت في تغطية "ثورات" العالم العربي، والإعلام الإسرائيلي...
وفي تطرقٍ إلى الإعلامين العربي والإسرائيلي، قال ضراغمة: الإعلام العربي مشابه للإعلام الفلسطيني في أدائه، هو إعلام قبلي للأسف، ثورات العالم العربي عرتنا وكشفت زيف مهنيتنا، الانقسام في الإعلام العربي أحدث شرخًا أيضًا وانقسامًا في إعلامنا.
اليوم، إذا رغبتُ بمتابعة أحداث العالم العربي فإنني لا أكتفي بالبحث في الإعلام العربي فقط، أبحث في الإعلام الأجنبي، حتى وإن كانت للأخير هفوات وأخطاء في التغطية تعود في أحيان معينة للتعتيم الإعلامي، وأحيانًا أخرى لمحاولات التضليل السياسية، إلا أنه أكثر مهنية في التعامل مع ما يجري في وطننا العربي.
بات من الواضح أن وسائل الإعلام العربية لا تعكس الواقع في العالم العربي، إنما تشارك في صياغة هذا الواقع وإعداده؛ إذا ما أردتَ متابعة الأحداث في مصر فإن قناة "الجزيرة" تقدم لك أخبارًا مختلفة عن الأخبار التي تقدمها قناة "العربية"، بل مناقضة لها؛ وفي سوريا تجد تغطية "الجزيرة" و"العربية" في وادٍ وتغطية "الميادين" في وادٍ معاكس، والمشاهد يعيش بين العالمين باحثًا عن الحقائق.
الإعلام الإسرائيلي حالة خاصة، فهو مختلف عن الإعلامين العربي والغربي. عند الحديث عن الحيز العام الإسرائيلي والبيت الداخلي، فإن الإعلام الإسرائيلي يبدو قويًّا وله أسنان، هو قادر على التغيير، وقادر على المحاسبة، وقادر على تغيير أجندة السياسيين اليومية؛ لا ننسى أن الإعلام الإسرائيلي أدخل رئيسًا إلى السجن. الإعلام نفسه يتصرف بصورة مجندة وسياسية عند الحديث عن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني؛ الصحافي الإسرائيلي ينسى في هذه الحالة مهنيته ويركز أكثر على قوميته، محاولًا الدفاع عن سياسات الحكومة الإسرائيلية المختلفة.
الانقسام باقٍ ولن تكون هناك مصالحة، والمفاوضات عبثية!
بعيدًا عن الإعلام، وفي حديث حول السياسة مستفيدين من تجربة ضراغمة الخاصة خلال محادثات المصالحة التي جرت بوساطة مصرية، قال متوقعًا: لن تكون هناك أي مصالحة، الانقسام الفلسطيني باقٍ كما هو، وما يجري اليوم هو إدارة انقسام الطرفان متفقان عليه ولهما مصلحة فيه؛ نحن نلاحظ ونرى العلاقات الشخصية الحميمة بين قيادتي الحركتين المنقسمتين، هذا ما شاهدناه في كل لقاءات المصالحة في القاهرة والدوحة، كلاهما رابح من استمرار الوضع الراهن، لذلك أعتقد أننا سنعيش مع الانقسام لفترة طويلة قادمة.
العامل الآخر المهم والمساهم في استمرار الانقسام، هو أن المؤسسات الفلسطينية هشة وضعيفة، فلا يوجد أي مؤسسات قوية يمكن الاحتكام إليها واحتواء الاختلاف كما هو موجود في كل النظم الديمقراطية في العالم، فلو جرت الانتخابات غدًا وفاز فيها طرف، فإن الطرف الثاني قد يستخدم السلاح لإبعاده عن الحكم؛ لو جرت انتخابات وفازت فيها "فتح" فإن "حماس" لن تُمَكّنَها من حكم غزة، وفي حال فوز "حماس" فإن "فتح" لن تُمَكّنَها من إدارة السلطة.
المشكلة الكبرى أن هناك أزمة ثقة عميقة بين الطرفين، ما يعيق الاحتكام إلى الانتخابات وإلى الشراكة السياسية.
فيما يتعلق بمسار المفاوضات، فقد بات واضحًا أنها عملية سياسية وليست عملية سلمية، الإسرائيليون لا يقبلون بالحد الأدنى المقبول فلسطينيًّا، والفلسطينيون لن يقبلوا بالحد الأدنى المقبول إسرائيليًّا لأنه لا يقدم لهم دولة ضمن حدود عام 1967، ولا القدس، ولا الأمن، ولا المياه، ولا العودة.
كيري يواجه معضلة كبيرة، ولهذا يبحث عن تمديد المفاوضات، كيري يبحث عن عملية سياسية أكثر مما يبحث عن حل سياسي، لذلك نجده يعمل في إطار اللغة أكثر مما يعمل على الأرض لإيجاد حلول واقعية وممكنة.
السلطة الفلسطينية تدرك أن لا حلول، لكنها لا تستطيع عزل نفسها عن العالم، خاصة أنها تعاني من أزمة سياسية واقتصادية شديدة. نجحت السلطة في المفاوضات الحالية في تحرير أسرى ما قبل أوسلو، وهذا إنجاز كبير في الشارع الفلسطيني، لكنها لم تنجح في وقف الاستيطان، وهي تعرف أن الاستيطان مستمر، سواء كانت هناك مفاوضات أم لم تكن، لذلك أرجح أن يجري تمديد المفاوضات، سواء نجح كيري في التوصل إلى اتفاق إطار أم لم ينجح.
الخيارات الفلسطينية محدودة، وتلويح السلطة بالانضمام إلى المنظمات الدولية يزعج إسرائيل، لكنه لا يحل المشكلة ولا ينهي الاحتلال، لذلك لا أراه بديلًا دراماتيكيًّا في يد السلطة، هو أيضًا يخلق عملية سياسية وإعلامية لكنه لا ينهي الاحتلال، والأمم المتحدة لا تقدم الكثير للفقراء والضعفاء، تقدم لهم جوائز ترضية.
استمرار المفاوضات يعيق لجوء الجانب الفلسطيني إلى الخيار الدولي الأكثر إيلامًا لإسرائيل، وهو المقاطعة. لا تستطيع السلطة الفلسطينية مطالبة العالم بمقاطعة إسرائيل كما حدث في جنوب أفريقيا إبان نظام التمييز العنصري، بينما تُجري مفاوضات معها، وخيار المقاطعة ليس مطروحًا بعد على طاولة القيادة الفلسطينية، لكنه خيار شعبي يتنامى.
الإعلام الاجتماعي لا يساعد في الخروج من مأزق غياب الحريات
نهاية اللقاء تحدثنا مع الصحافي ضراغمة عن الإعلام الجديد، وإذا ما كان يشكل منبرًا للفلسطيني، فقال: لا شك أن الإعلام الجديد بكافة وسائله، "الفيسبوك" و"التويتر" وغيرها، ساعد المجتمع لملاحقات أمنية، بل ولمحاكمات أيضًا، ما يعيدنا إلى النقطة نفسها، وهي أن مساحة الحرية في مجتمعنا الفلسطيني، وبشكل عام، مساحة ضيقة. الفلسطيني في التنفيس والتعبير، لكن علينا ألّا ننسى أنه وبسبب ذلك تعرض كثيرون