صاحبة الجلالة في الخدمة
2013-07-09
صاحبة الجلالة في الخدمة
عن دور وسائل الإعلام الإسرائيلية في الترويج للفكر الاقتصادي النيو-ليبرالي.
نبيل أرملي
يتحدث هذا المقال عن نشوء وتطور الفكر الاقتصادي النيو-ليبرالي في إسرائيل منذ منتصف الثمانينات وحتى آواخر العقد الأول من الألفية الثانية، ويتركز في دور وسائل الإعلام الإسرائيلية على وجه العموم، والاقتصادية على وجه الخصوص، في الترويج لهذه الفكر وتقديمه ودفعه بصفته النهج الفكري الاقتصادي الحصري و"الموضوعي"الوحيد المطروح.
***
مقدمة
في أحد المؤتمرات الاحتفالية التي عقدتها يومية "دا- ماركر"، وهي الملحق الاقتصادي لصحيفة "هآرتس"، اعترف بنيامين نتنياهو، وزير المالية آنذاك، بأنه متفاجئ من حجم الدعم الذي حصل ويحصل عليه من الملحق الاقتصادي ومن الصحيفة نفسها عندما يتعلق الأمر بالسياسات الاقتصادية التي يعمل على تطبيقها. لا شك أن استغراب وزير المالية، ولاحقًا رئيس الحكومة، من هذا الدعم هو أمر مفهوم، فبالنسبة لـ "هآرتس" المحسوبة على اليسار الصهيوني، يُعتبر نتنياهو وحكومته اليمينية قدرًا سيئًا لمستقبل إسرائيل، كما تبين مقالات التحرير في أحيان متقاربة، فيما اعتبر نتنياهو نفسه، في اجتماع مُغلق، أن صحيفة "هآرتس" واحدة من أعداء إسرائيل إلى جانب الكاتب الصحافي اليهودي- الأمريكي توماس فريدمان، أحد أشد المنتقدين لسياسة نتنياهو.
إن مراجعة موقف الصحيفة المذكورة من السياسات الاقتصادية التي تبناها نتنياهو منذ ولايته الأولى رئيسَ حكومة ووزير مالية (1996- 1999)، ثم لاحقًا وزيرَ مالية في حكومة أريئيل شارون (2003-2005)، تبين بكل وضوح موقف الصحيفة ومحرريها الداعم للسياسات الاقتصادية التي سعى نتنياهو إلى تطبيقها وترسيخها، سياسة اقتصادية نيو- ليبرالية متشددة. موقف "دا ماركر" لم يختلف عن موقف بقية وسائل الإعلام الرئيسية في إسرائيل، وخاصة وسائل الإعلام الاقتصادية التي تعاملت مع الفكر الاقتصادي الذي حمله نتنياهو على أنه الفكر الاقتصادي الوحيد الكفيل بضمان المتانة الاقتصادية والمالية لإسرائيل.
إن الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن قصد أو عن غير قصد، في الترويج للفكر الاقتصادي النيو- ليبرالي كان له شديد الأثر على ترسيخ هذا الفكر وترجمته إلى أفعال وإلى برامج تنفيذية أثرت وتؤثر على سكان الدولة بشكل يومي وملموس.
إسرائيل تتحول
قبل أن نخوض في دور وسائل الإعلام في ترسيخ السياسة الاقتصادية النيو-ليبرالية، لا بد من تقديم نبذة حول تطور الفكر الاقتصادي النيو- ليبرالي في إسرائيل. يشير علماء الاقتصاد إلى أن منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي يعتبر بداية التحول الرسمي في السياسية الاقتصادية في إسرائيل، ويتم التعامل مع برنامج "التثبيت الاقتصادي" الذي انطلق سنة 1985 على أنه نقطة التحول من اقتصاد إسرائيلي ذي مميزات اشتراكية، إلى اقتصاد ذي مميزات ليبرالية رأسمالية. الأهداف المُباشرة لبرنامج التثبيت الاقتصادي كانت ثلاثة: تخفيض نسبة التضخم المالي (وقد وصلت في مطلع ذلك العام إلى 400%)، وموازنة ميزان المدفوعات وتثبيت الاقتصاد، والعودة إلى مسار النمو. وعلى الرغم من ادعاء بعض علماء الاجتماع بأن السياسية الاقتصادية النيو- ليبرالية تغلغلت إلى دوائر صنع القرار قبل ذلك بكثير، إلا أن هناك إجماعًا على أن سنة 1985 هي سنة التحول. أعاد برنامج الإصلاح الاقتصادي تعريف العلاقات بين المجموعات المُختلفة في المجتمع الإسرائيلي، وقد أدى إلى تعزيز مكانة المجموعات المستفيدة من السياسة النيو- ليبرالية على حساب المجموعات الأخرى. في إطار السياسة الجديدة أصبح بنك إسرائيل لاعبًا مركزيًّا في الاقتصاد، وأصبح لرأي كبار الموظفين فيه أهمية كبرى في بلورة التوجهات الاقتصادية للبلاد. عمليًّا، نجح واضعو السياسات في بنك إسرائيل وفي وزارة المالية في نقل إسرائيل إلى عهد الاقتصاد النيو-ليبرالي من خلال إحداث التغييرات البنيوية في السياسات النقدية والمالية، وفي القطاعات المصرفية والمالية، وفي سياسات الدعم الاجتماعي.
مِن "نحن" إلى "أنا"
أدت التحولات الاقتصادية في إسرائيل أعلاه إلى حدوث تغيير جوهري في البنى الاجتماعية والاقتصادية في الدولة، تمامًا كما حصل في دول أخرى عديدة مرت بالتحولات نفسها من اقتصاد شبه اشتراكي- ديمقراطي إلى نظام اقتصادي ليبرالي/ نيو ليبرالي على النمط التاتشري والريغني. لم يكن للفرد في إسرائيل حتى منتصف الثمانينات موقعه المركزي في الاقتصاد، فالإنسان المتوسط كان جزءًا من منظومة اجتماعية – اقتصادية حافظت عليه وحمته من المخاطر المُختلفة، ومن أشهر هذه المنظومات طبعًا منظومة القطاع العام ومنظومة الاتحادات العمالية القوية، وقد انتمت الغالبية العظمى من القوى العاملة في المجتمع الإسرائيلي إلى واحدة من هاتين المنظومتين. أما الأمر الأساسي الذي وفرته هذه المنظومات للفرد فقد كان الأمان الوظيفي والاقتصادي، إن أثناء مرحلة العمل أو في مرحلة التقاعد؛ ومن هذا المنطلق كان انشغال الفرد المتوسط بالأمور الاقتصادية محدودًا للغاية، إذ لم يكن أصلًا بحاجة إلى فهم ما يعمل على تحديده وتطبيقه الآخرون "فوق".
أدى دخول إسرائيل إلى مرحلة الاقتصاد النيو-ليبرالي ابتداءً من منتصف الثمانينات، من بين أمور أخرى عديدة، إلى إضعاف المنظومتين المذكورتين، القطاع العام والاتحادات العمالية، وإلى خروج الفرد المتوسط من دائرة حمايتها ليُصبح المسؤول الأول عن وضعه الاقتصادي الآن وفي المستقبل. ففي إطار الخطة الاقتصادية الجديدة قلصت إسرائيل إلى حد بعيد خدمات الرفاه والرعاية الاجتماعيين للمواطنين، ونقلت هذه المسؤولية إلى الأفراد أنفسهم؛ وأدى تحرير ضوابط العمل في أسواق المال ودخول لاعبين جدد كثر إلى هذه الحلبة، وإفساح المجال أمام البنوك التجارية والصناديق الاستثمارية المحلية والأجنبية، إلى لعب دور أكبر في أسواق المال، ولى زيادة اهتمام هذه المؤسسات بـ "المستثمر الفرد"، فأصبحت تسعى لتطوير "منتجات" استثمارية مختلفة يمكن تسويقها له، كالأسهم وسندات الدين وما شابه، وأصبحت تنظر إلى الفرد/ العميل بصفته إنسانًا ذا وعي ومعرفة اقتصادية متطورة تؤهله لأن يكون مسؤولًا عن مصيره ومستقبله الاقتصادي والمالي.
لم يكن لديناميكية التحول الاقتصادي والاجتماعي المذكورة أعلاه أن تتواصل دون وجود وتطور إعلام يواكب ويُغذي هذا التحول ويتفاعل معه؛ خروج الفرد من "حماية" منظومة القطاع العام ومنظومة الاتحادات العمالية وتحوله إلى المسؤول الأول عن مصيره الاقتصادي والمالي، أدى إلى نشوء حالة جديدة احتاج فيها هذا الفرد إلى المعلومات الاقتصادية والمالية لاتخاذ قراراته بشكل صحيح. الإصلاحات التي طالت أسواق المال حولتها إلى حلبة فعالة ومتفاعلة يشارك في أعمالها اليومية آلاف المواطنين ويتأثر بنتائج تداولات أسواقها عشرات الآلاف وأكثر. بعد وقت قصير أدركت وسائل الإعلام أن الشارع يبحث عن أخبار ومعلومات اقتصادية يومية، فبدأت الصحف اليومية الرائدة بتوسيع تغطياتها للأخبار الاقتصادية المحلية والعالمية، وبدأت بتعيين محررين متخصصين في مجال الصحافة الاقتصادية وفي تغطية أخبار البورصة بشكل يومي، وأصبح لقصص وشخصيات قطاع الأعمال مساحة متزايدة في وسائل الإعلام، بل وظهرت في منتصف الثمانينات أول صحيفة يومية متخصصة في الإعلام الاقتصادي وهي صحيفة "غلوبس"، التي لا تزال تصدر حتى يومنا هذا؛ وبطبيعة الحال لم يقتصر مد الإعلام الاقتصادي النامي على الصحف والإعلام المطبوع فقط، بل تطور لاحقًا ليشمل برامج تلفزيونية وإذاعية متخصصة، والعديد من مواقع الإنترنت التابعة لدورِ إعلامٍ كبيرة أو مستقلة.
ويمكن القول إن الطفرة الكبرى التي شهدتها الصحافة الاقتصادية حدثت في مطلع الألفية الثانية، حيث تم تأسيس عدد من وسائل الإعلام الاقتصادية المتخصصة مثل صحيفة وموقع "دا ماركر"، وصحيفة وموقع "كالكاليست"، وغيرها من المواقع المتخصصة التي لم تصمد طويلًا. من الذي بادر إذًا إلى بلورة وتطوير وسائل الإعلام الاقتصادية، وهل هناك علاقة بين خلفية المؤسسين والمالكين لوسائل الإعلام هذه وبين الخط التحريري الذي تبنته منذ البداية؟
إن مراجعة خارطة الإعلام الإسرائيلي وتطوره منذ ثلاثة عقود تقريبًا وحتى يومنا هذا، تكشف للقارئ مدى عمق العلاقة بين هذا الإعلام وبين القطاع الخاص ومجتمع الأعمال في إسرائيل. إن ارتباط المؤسسات الصحافية برأس المال ليس بالأمر الغريب، فالمؤسسات الصحافية هذه هي في السواد الأعظم من الحالات شركات تجارية تسعى للكسب المادي وتحقيق الأرباح لأصحابها. مع ذلك نجد أن الأمر في حالة الإعلام الإسرائيلي مختلف بسبب حصر ملكية وسائل الإعلام المركزية في مجموعة محدودة من أصحاب رأس المال الذين يملكون شركات ومؤسسات تجارية مختلفة في قطاعات اقتصادية أخرى. في بحث أعد سنة 2011 تحت عنوان "تحليل الإسقاطات الاقتصادية لتركيز وتقاطع الملكية على وسائل الإعلام"، والذي صدر عن مركز الأبحاث التابع للكنيست، ورد أن درجة المركزية المرتفعة في سوق الإعلام الإسرائيلي تظهر من خلال تقاطعات الملكية على وسائل الإعلام المُختلفة، وفي ظل المركزية المفرطة التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي نجد أن غالبية وسائل الإعلام الرئيسية تتبع لمجموعات اقتصادية ناشطة في مجالات أعمال مختلفة، الأمر الذي يحول مسألة النزاهة الصحافية والمعايير المهنية والموضوعية إلى تحديات يواجهها الصحافيون والمحررون صباح كل يوم؛ ويذكر البحث نفسه أن "الاقتصاد الإسرائيلي هو اقتصاد مركزي نسبيًّا، ففي سوق الائتمان الإسرائيلي نسبة عالية من المركزية، لذلك يُصبح العائد على الاستثمار في وسائل الإعلام في إسرائيل، عائد منخفض نسبيًّا، بل وفي بعض الأحيان يكون العائد سلبيًّا. هذه المعطيات قد تدفع إلى تملك الصحف ووسائل الإعلام، ليس من منطلقات ربحية أو بهدف خلق صحافة مهنية، إنما لاعتبارات أخرى تتعلق بالنشاط التجاري الإضافي للمالكين أنفسهم، أو من منطلق الرغبة في التأثير على الرأي العام وعلى النقاش العام في سياق هذا النشاط."
خير دليل على الكلام الذي ورد في الاقتباس أعلاه حصل مؤخرًا في صحيفة "معاريف" اليومية؛ لقد عانت الصحيفة منذ أواخر التسعينات من ضائقة مالية وكبدت أصحابها، عائلة نمرودي، خسائر بعشرات ملايين الشواقل كل سنة، وأصبحت مثالًا حيًّا للأزمة الاقتصادية التي تُهدد قطاع الصحافة المطبوعة في إسرائيل. في مطلع عام 2011 قررت مجموعة "ديسكونت" الاستثمارية التي تعود ملكيتها لرجل الأعمال نوحي دانكنر، شراء الصحيفة، وضخت فيها ما يقارب 400 مليون شاقل في أقل من سنتين. أثارت هذه الصفقة الاستغراب لسببين رئيسيين: السبب الأول هو انعدام الجدوى الاقتصادية في استثمار كهذا على ضوء الأزمة التي يعاني منها قطاع الإعلام بشكل عام، والثاني قيام دانكر بهذه الصفقة فيما تعاني مجموعة شركاته من ضائقة مالية متفاقمة تهدد بقاءها في الأسواق. واستنادًا إلى هذه الخلفية أجمعت التحليلات أن السبب الأساسي وراء قيام دانكنر بشراء "معاريف" هو سعيه للسيطرة على وسيلة إعلامية تساعده على تحسين صورته أمام الرأي العام، وتتصدى لموجة الانتقادات التي تعرض لها على صفحات وشاشات وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة بسبب نهجه الإداري والاستثماري الخاسر. وفعلًا لم يتأخر ظهور الدليل على صدق رأي المحللين في النية الحقيقة لصفقة "معاريف" بعد أن عارضت الصحيفة وبشدة توصيات إحدى اللجان الرسمية التي أوصت بضرورة تقليص مستوى المركزية في الاقتصاد الإسرائيلي عبر تفكيك المجموعات الاستثمارية الهرمية التي تسيطر على عدد كبير من الشركات في مجالات عمل مختلفة، وعلى رأسها مجموعة نوحي دانكنر الاستثمارية. لقد كان واضحًا أن الموقف النقدي للصحيفة من توصيات اللجنة يتناسب جدًّا مع مصالح أصحاب الصحيفة الجدد.
إجماع على النيو-ليبرالية
ذكرنا أعلاه أن تطور الصحافة الاقتصادية في إسرائيل ارتبط بشكل وثيق بالتحولات التي طرأت على السياسة الاقتصادية فيها منذ منتصف الثمانينات، مع التحول إلى النموذج الاقتصادي النيو-ليبرالي، ومن هذا المنطلق كان من الطبيعي أن تتحول وسائل الإعلام الاقتصادية إلى آلية الترويج الأهم للفكر الاقتصادي الجديد، وهكذا نفهم كيف تبنت وسائل الإعلام المبادئ النيو-ليبرالية الأساسية بصفتها إطارها الفكري الوحيد. بناءً على ذلك، أصبحت وجهات النظر النيو- ليبرالية، مثل تقليص دور الحكومة في عمل الأسواق، وخصخصة الخدمات، وتغيير نمط علاقات العمل، وإضعاف الاتحادات العمالية وما شابه من أمور، فرضيات شبه "علمية" لا تقبل النقاش وتمثل حقائق اقتصادية موضوعية ومحايدة، وليس بصفتها وجهات نظر تُمثل منظومة قيمية محددة من بين منظومات وآراء أخرى. أما النتائج الاجتماعية السلبية الناجمة عن تبني النموذج النيو- ليبرالي، كارتفاع مستويات الفقر، واتساع الفجوات بين طبقات المُجتمع، وتراجع مستوى الخدمات الصحية والاجتماعية، فقد عرضتها الصحافة الاقتصادية على أنها عواقب لا مفر منها في سبيل النمو الاقتصادي العام.
في مقال حول الدور الذي لعبته الصحف الاقتصادية في الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت اقتصادات العالم عام 2008، يقول الباحث الاجتماعي يوسي داهان: "في السنوات الثلاث الأخيرة، شكل الفكر النيو- ليبرالي إجماعًا علميًّا وقيميًّا في الصحافة الاقتصادية. هذه الصحافة التي تعتاش على مدخولات الحملات الإعلانية للمؤسسات المالية، والتي يتبع غالبية قرائها للطبقات الغنية، دعمت التوجه الذي يمنح قوى السوق حرية العمل. وفي إسرائيل دعمت الصحافة الاقتصادية السياسة النيو- ليبرالية التي تبناها صنّاع القرار في إسرائيل، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو ". وفي مكان آخر يعرض كاتب المقال كيف نجحت وسائل الإعلام الاقتصادية في تحويل جزء كبير من العاملين في الشركات والمؤسسات المالية، كالمدراء والمحللين والوسطاء، إلى نجوم إعلاميين، وكيف نجح هؤلاء في السيطرة على الحلبة الإعلامية ليصبح لهم تأثير واضح على تحليل الأحداث وتفسير الظواهر الاقتصادية والاجتماعية من منظور نيو- ليبرالي ليظهر وكأنه المنظور الوحيد.
لا يمكن فصل الواقع السياسي عن الواقع الاقتصادي، فكلاهما مرآة للآخر. لا يمكن فهم الدور الذي لعبته المؤسسات الإعلامية في الترويج للفكر النيو - ليبرالي بمعزل عن التغيرات السياسية التي مرت على المجتمع الإسرائيلي منذ عقدين تقريبًا، وعلى رأسها التراجع الحاد في مكانة اليسار الإسرائيلي وسيطرة أحزاب اليمين على الحلبة السياسية بشكل شبه كامل. لا مكان هنا لحديث موسع عن أسباب تراجع اليسار، لكن هذا التراجع شمل أيضًا غيابًا شبه كامل للفكر اليساري الاقتصادي المناقض للفكر النيو- ليبرالي، باستثناء الحر.
ثمة دليل آخر على تمترس وسائل الإعلام الاقتصادية في خانة الفكر النيو- ليبرالي، ظهر في التغطية الصحافية لحركة الاحتجاجات الشعبية التي هزت الشارع الإسرائيلي في صيف 2011. حظيت موجة الاحتجاجات التي انطلقت على خلفية الأوضاع المعيشية الصعبة بتعاطف إعلامي واسع، بما في ذلك تعاطف الصحف الاقتصادية، لكن على الرغم من وجود إجماع بين العديد من علماء الاقتصاد والاجتماع بأن أصل المشكلة يعود إلى السياسية الاقتصادية النيو- ليبرالية المتبعة في البلاد منذ ثلاثة عقود، إلا أن وسائل الإعلام الاقتصادية أصرت على رأي مخالف يؤمن بأن المشكلة ليست في الفكر النيو- ليبرالي بحد ذاته، إنما في "فشل الأسواق" وفي وجود معوقات أخرى لا علاقة لها بهذا الفكر. ومن هذا المنطلق دعمت جميع الصحف توصيات لجنة "طرختنبرغ" التي شُكّلت في أعقاب موجة الاحتجاجات، والتي نادت بإجراء إصلاحات اقتصادية – اجتماعية مختلفة، لكنها بقيت في الإطار الفكري النيو- ليبرالي.
إن مراجعة تاريخ وتطور الصحافة الاقتصادية في إسرائيل يؤكد على أنه لم يكن بالإمكان لهذه الصحافة الدعوة لتغيير النموذج القائم، فهي في نهاية المطاف جزء لا يتجزأ منه.