الانتخابات الإسرائيليّة بين تبدّل الشخصيّات وثبات السياسات
2013-07-09
الانتخابات الإسرائيليّة بين تبدّل الشخصيّات وثبات السياسات
أمل جمّال*
تثير نتائج الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة جدلًا واسعًا حول عدّة مواضيع تتعلّق بالعلاقة بين التوقّعات ومجرى الانتخابات من جهة، ونتائجها السياسيّة والحزبيّة وبنْية الائتلاف الحكومي من جهة أخرى. هنالك جوّ عامّ تبثّه وسائل الإعلام الإسرائيليّة المختلفة يعكس نوعًا من الارتياح والطمأنينة والوعود حول قدرة ما درج تسميته كأحزاب الوسط على إعادة التوازنات "اللازمة" للواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الإسرائيليّ. ويجري القول على أن هذه الوعود متعلّقة بالتحوّلات التي طرأت على توازنات الأحزاب، خاصّة نجاح حزب "يش عتيد" ("يوجَد مستقبل") في الحصول على تسعة عشر مقعدًا، ممّا يضمن له كبير التأثير على وضع السياسات في الشؤون الحياتيّة المختلفة. في رأي الكثيرين، نجح هذا الحزب بصكّ "عملة" جديدة في سوق التداولات السياسيّة الإسرائيليّة، وضاعَفَ قوّته من خلال تعاقُدِهِ مع حزب "البيت اليهوديّ"، كما قام باستعمال هذه العملة المتمثّلة بالوضوح والشفافيّة وعدم التنازل عن المبادئ من أجل إضعاف قدرة ائتلاف "الليكود-بيتنا" على ممارسة ضعوط جِدّيّة خلال بناء الائتلاف الحكومي.
أودّ أن أُدخِل شكًّا في هذه القراءة بالرغم من أنّني من الذين يدّعون أنّه من الممكن أن نرى أنّ نتائج الانتخابات تعكس في ظاهرها نوعًا من "العقلانيّة الحدْسيّة"، حيث قامت قِطاعات مجتمعيّة محدَّدة بنقل صوتها على نحوٍ متعمَّد ومقصود لقوى جديدة، معبّرة بذلك عن استيائها القاطع ممّا قدمته حكومة الليكود - يسرائيل بيتينو - شاس خلال الأعوام 2009-2013. يعكس هذا حِراكاتٍ مجتمعيّةً باطنيّة انعكست ببعض معالمها في هذه الانتخابات، من أهمّها ظهور التأثير الكبير لنُخَب من خلفيّة اقتصاديّة متيسّرة ذات رؤيا عَلمانيّة بأغلبيّتها وخلفيّة ثقافيّة غربيّة، أي إشكنازيّة، تقطن المدنَ الكبرى في أواسط البلاد. تصدّرت هذه المجموعةُ الانتخاباتِ من أجل الدفاع عن مصالحها والتعبير عن استيائها من تحويل الائتلاف الحكومي مواردَ هائلةً من القِطاعات العاملة في المجتمع الإسرائيليّ إلى قطاعات لا تشترك في أداء ما يسمَّى "العبء الوطنيّ" الذي يتمحور حول الخدمة العسكريّة والاشتراك في سوق العمل، والاستياء من تدهور علاقات إسرائيل الخارجيّة جرّاء سياسة قومجيّة متعصّبة دفعتْ إلى انتهاجها الأحزابُ الأرثوذكسيّةُ وحزبُ "يسرائيل بيتينو" وقِطاعاتٌ واسعةٌ من حزب الليكود نفسه.
ينقض هذا التحليل مقولة مهمّة تجذّرت في علم الاجتماع السياسيّ الإسرائيليّ، عبّر عنها باروخ كمرلينج، بقوله إنّ تأثير النخبة الإشكنازيّة العَلمانيّة القديمة التي اعتنقت الإيديولوجيّة القوميّة الاشتراكيّة لكي تخدم مصالحها ولتستولي على مراكز القوّة في الدولة الإسرائيليّة، هذا التأثير تلاشى. على العكس من ادّعاء كمرلينج، ادّعائي هو أنّ هذه النخبة ما زالت تقوم بدور سياسيّ وثقافيّ واقتصاديّ قويّ وأنّ كلّ ما تبدّل في الواقع هو أيديولوجيّتها الذرائعيّة والتي أصبحت تتّبع نموذج القوميّة الرأسماليّة المُعَوْلَمة وتدعم مواقف دبلوماسيّة "حكيمة" تضمن لها استمرار اندماجها وتوسيع نفوذها في الاقتصاد العالميّ.
سخّرت هذه النخبةُ الاستياءَ العارمَ لدى الطبقة الوسطى الذي جرى التعبير عنه خلال الحِراك الجماهيريّ الواسع والاحتجاجات الاجتماعيّة في صيف العام 2011. إلاّ أنّ اللافت للانتباه في الأمر هو أنّ الحزب الذي نجح في تسخير الحِراك الجماهيريّ لمصلحته لا يختلف في سياساته الاقتصاديّة والاجتماعيّة عن الرؤيا السائدة في حزب "الليكود" وحزب "يسرائيل بيتينو" اللذَيْن قادا الائتلاف الحكومي الذي خرج ضدّه مئات الآلاف من المواطنين.
لقد عبّر نجاح حزب "يوجد مستقبل" عن صفة سياسيّة مهمّة إضافيّة انعكست من خلال ائتلاف هذا الحزب مع حزب "البيت اليهوديّ" بقيادة نفتالي بينيت. افتتاح لبيد لحملته الانتخابيّة في وكر الاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 في مدينة أريئيل، ومن ثَمّ ائتلافه مع بينيت، هما تعبير عن الإجماع الواسع حول المعادلة الداعية لكون المستوطنات اليهوديّة في الأراضي المحتلّة جزءًا لا يتجزّأ من الدولة العبريّة. وقد عبّر ائتلاف لبيد-بينيت عن فضفاضيّة مصطلح "أحزاب الوسط"، وذلك لعدم وجود خلافات تُذْكَر بين هذه الأحزاب وأحزاب اليمين في كلّ ما يتعلّق بالرؤيا الإستراتيجيّة والأيديولوجيّة حول حدود الدولة العبريّة وحلّ الصراع الإسرائيليّ–الفلسطينيّ وهُويّة الدولة اليهوديّة والهيمنة القوميّة النيوليبراليّة على مفاصل القوّة في الدولة. بالرغم من الفوارق القائمة بين مصوّتي الحزبين على مستوى مدى التديّن، هنالك -على ما يبدو- توافُقٌ واضح حول المصالح الوطنيّة والتمحور في القضايا الداخليّة وحلّ مشاكل السكن وغلاء المعيشة والفساد والفقر والامتناع عن اتّخاذ مواقف أمنيّة أو إستراتيجيّة أو سياسيّة خلافيّة، بادّعاء أنّ التحوّلات الجارية في المحيط الإقليميّ، وَ "الربيع العربيّ"، تُلزم بتثبيت الوضع القائم، مع الأخذ بعين الإعتبار الحاجة إلى بذل جهد خاصّ لتغيير صورة إسرائيل في العالم وتحسين علاقاتها الخارجيّة.
إنّ أنماط التصويت في الانتخابات الأخيرة تعكس حدود الشرعيّة للّعبة السياسيّة الإسرائيليّة. انعكس ذلك في استثناء قطاعين مجتمعيَّيْن يشكّلان قُرابة ثلث المواطنين الإسرائيليّين: العرب واليهود الحريديّين. بالرغم من الاختلافات الجذريّة بينهما من ناحية انتمائهم القوميّ ومدى تديّنهم ونسبة مشاركتهم في سوق العمل الإسرائيليّ، فإنّ المعادلة السياسيّة التي فرضها ائتلاف لبيد– بنيت، والتي تتمحور في ما سُمّي "تقاسُم العبء"، تعاملت مع القطاعين من المنطلقات نفسها بالرغم من الخطاب المختلف تجاهها. الأهمّ في ذلك أنّه جرى استثناء المواطنين العرب من حسابات الائتلاف الحكومي، على نحوِ ما هو متّبَع تاريخيًّا، بينما جرى التحاور مع الأحزاب الحريديّة. لقد عبّر يائير لبيد عن استثناء المواطنين العرب من خلال مقولته العنصريّة إنّه لا ينوي إقامة ائتلاف مع مَن نَعَتَهم بـِ "الزعبّيين". بالرغم من تراجعه عن استعمال التعبير ذاك، التقى لبيد بموقفه مع مواقف كلّ الأحزاب التي دخلت الائتلاف الحكوميّ، الذي لا يعبّر عن أيّ تغيير متوقَّع تجاه الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، في كلّ ما يتعلّق بسياسات الإخضاع والتهميش والقمع الثقافيّ والسياسيّ، والتفكيك المجتمعيّ، وتضييق الخناق على البلدات العربيّة -من خلال سياسات مصادرة الأراضي وإعاقة التطوير والحرمان من التخطيط الملائم.
تدلّ التحليلات الآنفة الذكر أنّ "الجديد" في نتائج الانتخابات يتمحوّر في الاشخاص لا في تبدُّل المواقف والسياسات. إنّ دخول يائير لبيد، الصحافيّ الجميل الهيئة، وحزبه إلى المعترك السياسيّ، ونجاح نفتالي بينيت بإجراء نقلة نوعيّة في كسب محبّة المجتمع الإسرائيليّ اليهوديّ لِما يمثّله من نجاح شخصيّ، والمزيج الذي يعبّر عنه بين إيمانه الأيديولوجيّ القوميّ-الدينيّ ودعم المستوطنات والاستيطان وكونه رجل هاي-تيك ناجحًا ومُعَوْلمًا، كلّ هذا لا يَعِدُ بإحداث تحوُّل جذريّ في القضايا الأساسيّة التي لها الحسم في الساحة السياسيّة.
صحيح أنّنا نتحدّث عن شخصيّات كسرت شوكة نتنياهو السياسيّة، وتجاوزت جاذبيّته الإعلاميّة، وأتت بخطابٍ واعد مبنيّ على الأمل في مستقبل أفضل للمجتمع الإسرائيليّ، وصحيح أنّنا نتحدّث عن شخصيّات جديدة في الكنيست الإسرائيليّ -سبعة وأربعين عضو كنيست جديدًا- العديد منهم ليس له أو لها تجربة أيًّا كانت في السياسة وبالتالي هم غير ملتزمين لمبنى القوّة القائم وغير مرتبطين بمصالح اقتصاديّة أو سياسيّة قائمة. كذلك صحيح أنّنا نتحدّث عن إدخال آليّات تجنيد سياسيّ وقنوات تواصُل جديدة مع الجمهور على نحوٍ مباشر من خلال وسائل الإعلام الاجتماعيّة. بَيْدَ أنّه -بالرغم من كلّ ذلك- يبدو أنّ الائتلاف الحكوميّ يعكس بونًا شاسعًا بين الخطاب والوعود، من جهة، والسياسات على أرض الواقع، من جهة أخرى. إنّ نظرةً متعمّقةً على الخطوط العريضة للائتلاف الحكوميّ تُظهِر أنّ السياسات الإستراتيجيّة والقوميّة ذات الصبغة النيوليبراليّة المُعَوْلمة والتوجّهات العنصريّة الاستعلائيّة الغربيّة وسياسات القضاء على العمل المنظَّم وإضعاف خدمات الرفاه ستبقى المهيمِنة في بناء السياسات وعمليّات اتّخاذ القرار.
يبدو أنّ هذا الائتلاف، وبسبب هيمنة شخصيّات أيديولوجيّة متعصّبة فيه، لن يستطيع اتّخاذ مواقف جديدة تتعلّق بالاستيطان وحلّ الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وبخاصّة بسبب التوافق حول كون الاستيطان جزءًا لا يتجزّأ من هُويّة الدولة العبريّة. وكذلك يبدو أنّ هذا الائتلاف لن يسرع في دعم القطاعات المجتمعيّة الضعيفة. الخطّة الاقتصاديّة التي يجري الحديث عنها من أجل تمرير موازنة الدولة للعامين القادمين مبنيّة على تقليص المساعدات الحكوميّة للقِطاعات الضعيفة من المجتمع، وعلى رفع الضرائب، دون إجراء تحوّلات تُذْكَر على الإعفاءات الضريبيّة للشركات الكبرى ولرؤوس الأموال النافذة. فضلاً عن ذلك، يبدو أنّ عمليّات الإقصاء العنصريّة تجاه كلّ مَن لا يندرج داخل الإطار الهُويّاتيّ الثقافيّ المهيمن، والذي يتمثّل في إشكنازيّته ونيوليبراليّته ومحافظته القومجيّة، ستستمرّ وتتوسّع لتشمل العرب وبعض اليهود الشرقيّين، والذين يقطنون في الأطراف، والحريديّين المصمّمين على الإبقاء على الانغلاق تجاه العالم الخارجيّ.
بناءً على هذا، إنّ الخطاب "الناعم" الذي يتفوّه به يائير لبيد وجماعته، وخطاب "الأخويّة" الذي يتحدّث به نفتالي بينيت، ما هما إلاّ غطاء معسول لسياسات تبقى رهينة المعادلة السياسيّة المهيمنة وتتمثّل في شخص رئيس الوزراء، بنياميين نتنياهو القوميّ المتعجرف والنيوليبراليّ المحافظ. وما عدم وجود أيّ تهديد له لتشكيل الحكومة وتبوّؤ منصب رئاسة الوزراء إلاّ دلالة قاطعة على أنّ الجمهور الإسرائيليّ يسلّم بأنّ هذا الشخص يمثّله بالرغم من أنّ بعض هذا الجمهور ضغط في تجاه إدخال تعديلات طفيفة على سياساته من خلال لبيد، من جهة، ومن خلال بينيت، من جهة أخرى. قبل الختام، من المهمّ التوضيح أنّ هذه التعديلات يختزل بعضها البعض مبقيةً على الظاهر المعتدل لتخدم أهدافًا دعائيّة تغطّي على التوافق الجوهريّ في القضايا الأساسيّة.
*بروفيسور أمل جمال هو رئيس برنامج العلوم السياسية والإعلام السياسي الدولي في جامعة تل أبيب ومدير عام مركز إعلام في الناصرة.