مجموعاتية رقمية، علاقات حميمية افتراضية، وتغيير أنماط التفاعل الاجتماعي/ البروفيسور امل جمال*
2014-05-18
في ظلّ الحراك الاجتماعي والسياسي الواسع في العالم العربي يثار السؤال حول تأثير الثورة الرقمية ونمو شبكات التواصل الاجتماعي على مكانة ودور الإعلام الجماهيري التقليدي. تختلف الأجوبة وتنقسم إلى فئة تعزي قوة عظيمة لشبكات التواصل الاجتماعي، وتدّعي أنها لعبت دورًا حيويًا في حثّ جيل الشباب على الخروج إلى الشوارع والاحتجاج، وبين فئة ترى أنه بمعزل عن هذه الشبكات فالطاقة الثورية الكامنة بين جيل الشباب العربي كبيرة جدًا، وأن دور هذه الشبكات اقتصر فقط على تسريع التوقيت، وأن مظاهر الاحتجاج هذه كانت سوف تتحقّق من دون هذه الشبكات، بالرغم من أنها كانت ستتطلب وقت أكثر.
ليس من السهل ولا من المناسب الفصل في هذه المسألة في هذا المقام، ولكن النقاش حولها يثير تساؤلات بما يتعلّق بالإسقاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية لهذه الثورة الرقمية على شكل التفاعل الاجتماعي للشبيبة في المجتمعات النامية. تهدف هذه الورقة إلى محاولة طرح جواب بهذا الخصوص عبر التفكّر في حالة المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل بوصفه مجتمع أقلية يمر في تحوّلات سريعة ويجاور مجتمع لأكثرية يهودية بغالبيته السائدة متطوّرًا ومتقدّمًا.
يفيد طرحي الأساسي أن الثورة الرقمية تدفع نحو ظهور مجموعات افتراضية تجمعها علاقات حميمية وطرق جديدة للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين الجيل الشاب تتحدى البنية الاجتماعية التقليدية. بهدف كتابة هذه الورقة لم أكتفِ بالاطلاع على مواد مكتوبة فحسب، بل آثرت التحدّث مع أحد أبنائي (بعمر 17 سنة) بغية فهم أعمق لإسقاطاتتأثير هذا الوسيط الجديد، خاصةً الشبكات الاجتماعية على المجتمع وعلى وسائل الإعلام التقليدية. اتّضح أن الثورة الرقمية قد استحدثت تحوّلات أساسية في استهلاك المعلومات بين الشباب. اعتقدت سابقًا أن وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف والتلفزيون، قد خسرت من قوة جذبها فقط بين الجيل الشاب، ولكن اتّضح لي أن مواقع إنترنت إخبارية وترفيهية قد خسرت هي الأخرى قوة جذبها لصالح وسائل جديدة أخرى، مثل الفيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام وواتس آب وغيرها. بسبب تسارع وتيرة التغييرات في مجال وسائل الاتصال الجديدة، فقد استمرت ثورة الإنترنت بمعناها الأساسي فترة قصيرة فقط. يسعى الجيل الشاب في كل مكان، ومن ضمن ذلك المجتمعات النامية كذلك، إلى الحصول على كل شيء بأسرع ما يمكن عبر كتابة جمل خاصة ومشفّرة.
تتسبّب الثورة الرقمية بتغيير أنماط التفكير والسلوك والاعتقادات القيمية التي تشكّلت على مدار سنين طويلة وهي تخضع حاليًا لتحوّلات أساسية تتأثّر بمضامين مختلفة ومتاحة عبر شبكة الإنترنت وأدواتها. إنها تنجح في الوصول إلى كل مكان وتسرّع عمليات اجتماعية وثقافية تحتاج بدونها إلى زمن طويل للتحقّق. بالرغم من أن مستويات ونسب شيوع الإنترنت في المجتمعات المتطوّرة أكبر من تلك السائدة في المجتمعات النامية، إلاّ أن تأثيره عليها لا يقل أهمية، وإنما تتغيّر طبيعة هذا التأثير فقط بسبب الاختلاف الثقافي بين المجتمعات. تتسم المجتمعات النامية بطبيعتها الجمعية والبطركية والدينية والحمائلية وتدنّي مستويات الفردانية فيها. وبسبب هذه السمات تحديدًا، فإن دخول الإنترنت إليها قد ترك آثارًا واضحة وعميقة على شبكات العلاقة الأساسية فيها، وخاصة في ظلّ توفّر هذا المتنفّس للفرد للتعبير عن آماله الخائبة على صعيد التحدّيات الماثلة أمامه في المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه.
لقد أدّى الإعلام الرقمي إلى فرض تغييرات عظيمة وجلية على صعيد أنماط استهلاك الإعلام التقليدي في المجتمع العربي في إسرائيل. نشهد انخفاضًا جليًا في استهلاك الصحافة المطبوعة لصالح أشكال إعلامية جديدة: قنوات تلفزيونية من العالم العربي عبر الأقمار الاصطناعية لا تأثير للمجتمع العربي في إسرائيل على مضامينها؛ الإنترنت والمواقع المحلية تعتبر مصدرًا للمعلومات الأساسية بشأن التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية في محيطهم؛ وشبكات التواصل الاجتماعي.
أضحى دخول الإنترنت إلى المجتمع العربي مصدرًا قويًا بأيدي مبادرين إعلاميّين واقتصاديّين وسياسيّين ما لبثوا أن استغلّوا هذا التحوّل. مثالاً على ذلك هو موقع بانيت (Panet) الذي نجح في استنساخ مركز ثقله من صحيفة بانوراما إلى موقع إلكتروني نشيط ومتنوّع نجح في جذب نسبة كبيرة من الجيل الشاب والبالغين سوية بفضل الدمج بين المضامين الترفيهية والإخبارية. وفي أعقاب هذا النجاح، انخرط العديد من المبادرين الآخرين، وخاصة أصحاب الصحف، في مثل هذه التغييرات. أضف إلى ذلك، تنشط العديد من الأحزاب والقيادات السياسية على شبكة الإنترنت بغية الدفع بأهدافهم إلى الأمام. لقد قرّب الإنترنت عوالم جديدة إلى المستخدمين، ووفّرت لهم معلومات لم تكن متاحة لهم عبر التلفزيون، ولا حتى عبر تلك القنوات التي تبثّ عبر الأقمار الاصطناعية، لا سيما من العالم العربي. إن القدرة العظيمة للردّ على أي مضمون فورية ورفع مضامين بصورة ذاتية قد عزّز الانتقال من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الرقمي وأدّى إلى ظهور مبادرين اجتماعيّين جدد.
لم يستبدل الإنترنت حتى اللحظة التلفزيون، ولكن هناك إشارات على نشوء تقسيم العمل بينهما على صعيد الاستهلاك الجديد للمعلومات بين أخبار ومعلومات في الإنترنت للاطلاع على التحليلات العميقة وبين مشاهدة الأفلام والمسلسلات في التلفزيون. إن تعزيز قوة الإنترنت قد طغى على الصحافة المطبوعة وأضعفها - وهي وسائل إعلامية لم تنجح أصلاً في بناء قاعدة قوية لها في المجتمع العربي في إسرائيل - ويؤدّي ذلك إلى تحوّلات عميقة بين الشباب والانتقال السريع من شبكة الإنترنت بمفهومها الأولي، أي مواقع إخبارية وترفيهية، إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي تستخدم كقاعدة إخبارية تعتمد الإيجاز والتفاعل الاجتماعي والثقافي. لا نتوقّع اختفاء وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف المطبوعة والتلفزيون والراديو، ولكن يتعيّن عليها إذا رغبت بالحياة أن تتلاءم مع أنماط الاستهلاك الجديدة.
تنتج الثورة الرقمية فجوات بين الأجيال. نجح جيل الشباب العرب في الانخراط في هذه الثورة وتحويل الإنترنت وهذا الوسيط الاجتماعي إلى أداة مركزية في حياتهم اليومية بالمعنى الإيجابي والسلبي على حدّ سواء. لا يزال جيل البالغين يفتش عن سبيله في هذا العالم المتحوّل ولا ينجح دومًا في سدّ الفجوة التي تفصله عن هذه التحوّلات. يتبنّى جيل الشباب أنماطًا ثقافية كونية تتحدّى قيم المجتمع والثقافة المحلّية التي يتمسّك بها ذويهم. إنهم يعيشون حيواتهم في قلب الإنترنت ويتواصلون ويتفاعلون مع أصدقائهم بصورة افتراضية أكثر مما يفعلون ذلك وجهًا لوجه. تكشف شبكات التواصل الاجتماعي أمامهم عوالم لم يكن بالإمكان الانكشاف عليها قبل ذلك. لقد قرّب التلفزيون أماكن بعيدة وصغّر العوالم الجغرافية المادية عند جيل الوالدين، ولكن الإنترنت قام بتصغير العالم الاجتماعي وبنى الجسور الثقافية واللغوية بين جيل الشباب من أمكنة مختلفة في العالم. لقد تحوّل صبية من قرى صغيرة وبعيدة في الجليل والمثلث والنقب إلى جزء من العالم الكوني واستبدلوا العلاقات المباشرة مع الأصدقاء في محيطهم بعلاقات مع أشخاص عبر الإنترنت ينتمون إلى أماكن لا يعرفوها. لقد قرّبت الثورة الرقمية لهم المكان البعيد، ولكنها في نفس الوقت بعّدت القريب على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. تتغلغل أنماط تفكير وسلوك وقيم غريبة بقوة وتغيّر عوالمهم الاجتماعية، خاصة في ظلّ مفهوم سائد مفاده أن المستخدم المتواجد والنشيط في الشبكة يعتبر حيًا وقائمًا ومَن ليس كذلك فهو ليس قائمًا.
إن التبعية لشبكة الإنترنت تؤثّر على المبنى الاجتماعي التقليدي، وتعزّز عمليات الفردنة، وتترك آثارها على أشكال التواصل والتفاعل الاجتماعي. قياسًا بالتلفزيون، حيث يشاهد جميع أفراد العائلة برامجه سوية في الصالون، فإن كل عضو/ فرد من العائلة مشغول في ظل الثورة الرقمية بصفحته ومع أصدقائه الذين لا ينتمون إلى شبكته الاجتماعية المباشرة. يترك هذا التطوّر آثارًا على النواة الأساسية التي لا زالت تحافظ على المجتمع، وأعني هنا التكافل الأسري. ندرك فجأة أن الوالدين والأبناء يعيشون في عوالم مختلفة، ولا يدرك الوالدان دومًا لماذا ينغلق أبناؤهم في غرفهم. لقد تحوّل طموح الوالدين التقليدي بأن يقوم أبناءهم بتحضير الفروض المدرسية في غرفهم إلى تخوّف لأن أبناءهم يختفون من الحيّز الحيوي المادي للبيت وينغمسون في فضاءاتهم الافتراضية.
هنالك بالطبع استخدامات إيجابية بأدوات الرقمنة في المجالات الأكاديمية والمدرسية وحتى في ذاكرة الأسرة الافتراضية، ومن العسير القول بأن الأبناء منقطعون عن الأحداث الطارئة على محيطهم الاجتماعي والثقافي والسياسي. إن نسب مشاركة جيل الشباب في الاحتجاجات الاجتماعية واهتمامهم الكبير بما يجري في العالم العربي، وخاصة في بلاد الربيع العربي، تجسّد مشاركتهم بالتطوّرات الطارئة على محيطهم. إن الاحتجاج الاجتماعي الواسع ضد سياسة الحكومة، كما في حال مخطّط برافار على سبيل المثال، أو تنظيم مسيرات في مناسبات وطنية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تعتبر أمثلة لنشاط الشباب وإن كان مقصورًا على الحيّز الافتراضي. إن هذه المشاركة أكبر مثال لتفنيد الزعم القائل بأن جيل الشباب غير مبال بالقضايا السياسية والاجتماعية.
لا تنتج ثورة الإعلام الجديد فجوة رقمية، افتراضية، فقط بل تنتج فجوة معرفية كذلك بين الأجيال. يتبدّل مفهوم سلطة الوالدين بسرعة كبيرة. لا يتمتّع الوالدان بأدوات "لمراقبة" أفعال الأبناء، فهم لا يعرفون التعامل مع التحدّيات الجديدة ولا ينجحون دومًا بالاستسلام لسلم الأولويات القيمية الذي يحمله الأبناء. يُنتج هذا الواقع أزمة ثقة عميقة، ويحدّ بصورة كبيرة من سلطة الوالدين والمدرسين، ولكنه في ذات الوقت يوفّر حيّزًا ذاتيًا لتطوّر فردانية الفرد، تلك الفردانية التي تعتبر عنصرًا أساسيًا للإبداع. يتيح التغيّر بأنماط السلطة في عصر الإنترنت المجال أمام جيل الشباب التعبير عن ذواتهم بمعزل عن إرادة أو مواقف الوالدين وربما باتجاه معاكس لما يرتضيه الوالدان.
من بين جملة الأمور الأخرى، فقد نتج عن الثورة الرقمية مجموعات افتراضية، التي وبالرغم من أنها لم تنجح حتى اللحظة باستبدال بنية المجتمع المحلّي التقليدي، إلا أنها تزعزعه وتدفع بالشباب نحو الاستثمار بمواقعهم الافتراضية على حساب العلاقات الأسرية التقليدية حتى على مستوى الإصغاء والتفاعل اليومي. أما على الصعيد العملي، فإنها قد عزّزت العلاقات الحميمية الافتراضية وخاصة الاستعداد للانكشاف أمام مجموعة أشخاص كبيرة لا يعرف الواحد منهم الآخر وذلك على حساب العلاقات الحميمية الجسدية أو العاطفية التي سادت في المجتمعات التقليدية والحديثة على حدّ سواء. زد على ذلك، فقد تبدّلت أنماط الدراسة بين أبناء الشبيبة، ونشهد عزفًا جليًا عن الالتزامات التقليدية على صعيد الفروض المدرسية وذلك لصالح العمل في حيّز افتراضي مشترك. وينعكس الأمر كذلك في التحوّلات الطارئة على أساليب التدريس في العالم. فقد باتت أساليب الدراسة والتدريس عن بُعد وعقد حلقات النقاش على موقع افتراضي شائعة وتعتبر حاليًا أنماطًا معتمدة ومقبولة في التعليم. تعتبر هذه التحوّلات شاملة وعميقة حتى أنها قد تركت آثارها على موازين القوى في المجتمع. إذ إن الأشخاص الذين لا يتمتّعون بالتحصيل العالي، أو تغيب القدرات الخطابية العالية عندهم، فإنهم وبالرغم من ذلك ينجحون في التعبير عن أنفسهم في الحيّز الافتراضي أسوة بالآخرين. كما وتجدر الإشارة إلى أن هذا التغيير يطرأ بين البنين والبنات على حدّ سواء، ولم تتبيّن حتى الآن إسقاطات ذلك.
وخلاصة الأمر، فإن دخول الإنترنت وتطوّر شبكات التواصل الاجتماعي قد تركت الأثر ولا زالت تؤثّر على شبكة العلاقات الأساسية في المجتمع، بدءًا من ظهور فجوات بين الأجيال وانتهاءً بزعزعة مستمرة لأنماط استهلاك الإعلام والتفاعل الإعلامي التقليدي. يتميّز الإعلام المنشور عبر مواقع الإنترنت بجمله القصيرة ورموزه، الأمر الذي يتيح الفرصة أمام عدد كبير من المستخدمين الاستفادة السريعة، ولكن وفي نفس الوقت يحدّ ذلك من إمكانية التعمّق في النقاشات بشأن قضايا مركّبة تستوجب مستويات إصغاء وتحليل لا تستوي مع سرعة الأدوات الرقمية. بطبيعة الحال، فإن دلالات ذلك على الصعيد القيمي تتعلّق بوجهة نظر الشخص، ولكن وبالرغم من ذلك يمكن الجزم بأن الثورة الرقمية تعزّز الفرد وتمنحه حرية الاختيار وقدرة على المشاركة لم تكن متاحة أمامه في العهود السابقة.