أمل جمّال: الصدفة والسياسة
2013-05-24
أمل جمّال
مدير عام مركز إعلام ومحاضر في قسم العلوم السياسية بجامعة تل أبيب
بودي أن أبتدأ بالتشكيك في أن السياسة والصدفة زميلتين؛ ففي السياسية لا توجد صدف، وفي الصدف لا توجد سياسة. هذا لا يعني أن قراراتٍ سياسيةً معينةً لا يمكن أن تظهر أو تطرح وكأنها من جرّاءِ صدفة، فالسياسة تسخّر الصدفة لرفع الصبغة السياسية عن السياسي وطرحه مجرد صدفةٍ للحد من الاعتراض عليه أو لعدم تنبيه معترضين عليه. وهي، أي السياسة، تعني في بعض الأحيان إظهار أمورٍ معينةٍ على أنها محض صدفةٍ لتمحو عن ذاتها صبغة السياسي، رغم التّخطيط المسبق لها، ورغم حسابات الربح والخسارة الواضحة في الموضوع.
تمثّل عمليات تغليف القرارات السياسية بغلاف القرار المهني والموضوعي تسخيرًا للسذاجة من أجل السياسة؛ وبالرغم من أن تسخير الصدفة فيه استخفافٌ للعقول في بعض الأحيان، وفيه عدم احترامٍ في أحيان أخرى، إلا أنها تنجح في الوصول إلى أهدافها بشكلٍ أنجع من آلياتٍ أخرى، خصوصًا القسرية منها.
عندما تصبح الصدفة جزءًا من عمليةٍ محكمةٍ وواضحة المعالم في القرار السياسي، فهي تعكس الاستخفاف المقصود بالعقول والتقليل من احترام الأنداد، لأنها تعبر عن حالةٍ من الهيمنة لا يحتاج فيها صاحب القوة إلى أن يغلف قراراته بأي غلاف، ويطرحها بشكلٍ واثقٍ موضحًا مقاصده وأهدافه. فالهيمنة هي القدرة على تحويل التفكير السائد إلى جزءٍ لا يتجزأ من المنطق الوجودي للجمهور، وهذه هي الحالة القصوى من النفوذ والقوة. ولكن، وفي الوقت نفسه، هذا مكمن ضعفٍ أيضًا، فعندما يتماهى منطق الأغلبية المطلقة لمجتمعٍ معينٍ مع القرار السياسي، فإن هيمنة الفكر السائد تصبح عدوًّا داخليًّا من الممكن أن يؤدي إلى التدهور نحو النرجسية الجماعية العمياء، والتي طالما انتهت بقراراتٍ وعملياتٍ دمويةٍ وغير إنسانيّة، كما كان الحال في إسبانيا فرانكو، أو في تشيلي بينوشيه، أو في حكم الخونطا العسكرية في الأرجنتين، أو في إيطاليا موسوليني أو ألمانيا الهتلرية.
يتساءل القارئ في هذه اللحظة عمّا أقصده في هذه العبارات المجردة والمعممة وعن التشبيهات المروعة، وها أنا أحاول الربط بينها وبين تطوراتٍ في الساحة السياسية الاسرائيلية التي لا تسخّر نفسها بالهين للتحليل الشامل في الكثير من الأحيان. فما هي العلاقة بين دق طبول الحرب على إيران وارتفاع أسعار البندورة في أسواق الخضار، وتحويل أموال للسلطة الفلسطينية على خلفية المظاهرات في مدن الضفة الغربية وطرد مفتش تعليم المدنيات في وزارة المعارف الاسرائيلية، والتوصية بإغلاق قسم العلوم السياسية في جامعة بئر السبع والتوصية الحكومية للاعتراف بكلية أريئيل الواقعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة كجامعةٍ سابعةٍ في إسرائيل؟
للوهلة الأولى يبدو الرابط مجرد صدفة؛ فالقضية النووية الإيرانية موجودةٌ على الساحة السياسية والأمنية والاعلامية منذ فترة، وتحويل الاموال للسلطة هي مستحقٌّ مبنيٌّ على اتفاق باريس من العام 1995، وارتفاع سعر البندورة هو قضيةٌ موسمية، وطرد مفتش المدنيات هو قرارٌ مهنيٌّ كما هي التوصية بإغلاق قسم العلوم السياسية في جامعة بئر السبع، والتوصية بالاعتراف بكلية أريئيل كجامعة هي الوحيدة التي من الممكن أن تندف منها رائحة القرار السياسي والتي من الصعب تغليفها بغلاف السذاجة.
إلا أن هذه المواضيع، وخصوصًا القرارات المتعلقة بسلك التعليم المدّيِّ أو التعليم العالي، ليست محض صدفة. إن البعبع الإيراني هو الغطاء الذي من خلاله تُمَرَّرُ القرارات العديدة الأخرى وتُصَوَّرُ على أنها غير مرتبطةٍ ببعضها البعض، وتحويل الاموال للسلطة هو شراءٌ للسكوت الأمني الذي يمكّن الحكومة الاسرائيلية من الاستمرار في عملية بناء وتوسيع المستوطنات بلا تحدٍّ كبير. كما أن القرارات المتوالية في شؤون التعليم والتعليم العالي تعكس محاولات اليمين القومجي الرأسمالي الهيمنة على العقلية السياسية الاسرائيلية، وفرض إرادته على الأجندة السياسية في إسرائيل. إن اختراق كل المؤسسات العامة، خاصةً تلك التي تصنع الرأي وتشكل الوعي التاريخي والثقافي ولها تبعاتٌ سياسية، هو جزءٌ من المنظومة السياسية نفسها الساعية لضمان السكوت والانصياع من أجل تمرير مخططاتٍ سياسيةٍ طويلة الأمد. وتضاف هذه القرارات المتوالية لعمليات القوننة التي مُرِّرَتْ في الكنيست في السنوات الثلاث الأخيرة، وأهمها قانون النكبة، وقانون المقاطعة، وقانون المواطنة، وللإجراءات القضائية والإدارية التي هدفت إلى تضييق حيز حرية التعبير عن الرأي والحد من إمكانيات الحراك السياسي المنافي للمنظومة الفكرية الساعية للهيمنة على المجتمع الاسرائيلي.
هذا المخطط الذي يأخذ مناحٍ وأشكالًا عديدةً هو هاجسٌ ((حيروتيّ)) منذ أيام جابوتنسكي وتحوّل إلى ((ليكوديّ)) منذ نهاية سنوات السبعينيات. في تلك الفترة، ونحن نتحدث عن سنوات حكم الليكود في فترة مناحيم بيغن ويتسحاق شامير، لم يستطع الليكود أن يهيمن بشكلٍ مطلقٍ لأنه لم يكن يملك السيطرة في المؤسسات الثقافية والأكاديمية والاعلامية الأساسية في الدولة، حيث أن القوى الاجتماعية صنيعة حزب ((العمل)) كانت لا تزال تمارس السيطرة على مراكز النفوذ في المؤسسات العلمية والثقافية والاعلامية؛ وقد سعى هذا للسيطرة على هذه المؤسسات في السنوات العشر الأخيرة، إذ أن حكومات شارون الليكودية ومن ثم نتنياهو عملت على اختراق هذه المؤسسات وتغييرها من الداخل، وما التعيينات السياسية لتساحي هنجبي وأمثاله إلا تعبيرٌ عن عمليات التحويل المبرمج للتوجهات السياسية والثقافية التي تعبر عن المشروع الصهيوني- الاسرائيلي، المرتكز على "الجدار الحديدي". وفي الأماكن التي لم تستطع هذه المحاولات التقدم، خلقت بدائلَ أو متنافسين مع المؤسسات "المشاكسة".