مرزوق حلبي: أخلاقيات مهنة متعبة
2013-05-24
مدخل
الأخلاقيات المهنية هي تلك الأصول وا"القواعد" والنُظم" التي تراكمت في إطار مهنة محددة عبر تاريخها ومن خلال اجتهاد القيمين عليها. وكل حديث في الأخلاقيات هو في نهاية المطاف مقاربة فلسفية ترجع إلى أصل المهنة وتلك القيم الموجودة في أساسها. وهي في بدايتها تلك القواعد الناظمة المؤطرة لنشاط إنساني محدّد تحول في وقت لاحق إلى مهنة. لكنها تتطور مع الوقت بفعل إرادي من القائمين على المهنة سعيا منهم إلى تكريسها والحفاظ عليها وعلى سمعتها وثقة المجتمع بها. وأمكننا أن نرى إلى الظاهرة من زاوية تاريخية لنجزم أن كل مهنة سعت إلى انتزاع اعتراف مجتمعي بها من خلال اعتماد منظومة من الأخلاقيات والقواعد. لكنها في المرحلة التالية عمدت إلى تعزيز مكانتها الاجتماعية من خلال تطوير المنظومة المذكورة ومن ثم التشدد في تطبيق الأخلاقيات والأصول المرعية في مساحتها. وقد تطوّرت الأمور في غالبية المهن لتكتسب معنى اقتصاديا واضحا بحيث تحوّلت الأخلاقيات والأصول إلى حواجز وموانع تحول دون انضمام أناس معينين لصفوف المهنة. فنقابة المحاماة في إسرائيل مثلا لا تقبل في صفوفها عضوا كان أدين بجرائم تنطوي على وصمة عار مثل القتل أو الاغتصاب أو السطو المسلح. فشخص كهذا يستطيع أن يدرس الحقوق ويدرّسها في المؤسسات الأكاديمية لكنه لن يستطيع أبدا أن يُجاز محاميا في صفوف النقابة. وفي هذه المهنة بالذات تشكل مخالفات لأصول المهنة وأخلاقياتها مبررات كافية لحرمان محامٍ من إجازة المحاماة أو تعليق إجازته لفترة ما. أي أن الأخلاقيات هنا هي مصفاة لمنع ازدياد أعداد المحامين وهو أمر قد يضعف القوة الاقتصادية للمهنة.
سنحاول في مقالنا هذا أن نقف عند أخلاقيات مهنة الصحافة في بعديها النظري والعملي وما يتصل منها بالصحافة العربية المحلية التي تنشط في ظل مساحات صحفية أوسع وهي الصحافة الإسرائيلية والصحافة المتحدثة باللغة العربية عموما والصحافة العالمية على ما في هذه المساحات من منظومات أخلاقيات ومتغيرات. سنحاول رصد زوايا أخلاقية في الصحافة العربية المحلية في ضوء ما هو حاصل في المساحات الإعلامية المذكورة وفي ضوء الحاصل على الأرض في مساحة الصحافة العربية المحلية ذاتها.
قليل من "النظري" لا يضرّ!
أخلاقيات مهنة الصحافة هي الأصول المُنظّمة للمثل الأعلى العملي للسلوك في إطار هذه المهنة. وهي بمثابة جملة "القوانين" الداخلية التي ينبغي على المُنخرط في هذه المهنة مراعاتها والامتثال لأحكامها طوعا. والأخلاقيات تتصل فيما هو لائق القيام به أو الامتناع عنه. بمعنى أنه ليس لهذه الأخلاقيات حكما قضائيا وهي لا ترقى إلى مكانة القانون الوضعي. وأساس ذلك في الإجماع الذي تطور عبر تاريخ الصحافة وقضى بأن يظلّ الأمر ضمن مفهوم القبول الطوعي لأصول المهنة وأخلاقياتها. أي أن نفاذ هذه الأخلاقيات يظلّ ضمن الحدود الداخلية للصحافة في العلاقة بين المهنة وبين المنخرطين فيها، بين الصحافة وبين الصحفيين. هذا لا يعني أنه ليس لهذا الأمر بُعد عام يشعر به الجمهور ويلمسه. فمخالفة اللائق صحفيا ـ أحد الأخلاقيات ـ قد يُفضي إلى ضرر بحق شخص ما أو مجموعة أو ذاك الغرض الاجتماعي الذي جاءت الصحافة لتحقيقه. وسنأتي على ذلك لاحقا.
أما المثل الأعلى العملي للسلوك الصحفي السويّ أو اللائق فكأي أخلاقيات مهنية أخرى يتأسس على ثلاثة مستويات ضرورية وهي:
المهارة المهنية ـ من نافل القول أنه على الصحفي أن يتمكن من مهارات العمل الصحفي. فالفرضية هي أنه يحتاج إلى أدوات معرفية في مهنته ليتخذ قرارات صحيحة. فعلى المراسل أن يعرف "أسرار" كتابة الخبر أو التقرير، وعلى المحرر أن يعرف كيف يحرّر مقالا أو صفحات الثقافة في الصحيفة أو نشرة الأخبار المُذاعة. هذا في الحدّ الأدنى المطلوب للمهنة. أما في الحد الأمثل فإن على الصحفي أن يُطوّر أدوات المهنة ومهاراتها بما يتفق مع تطور هذه المهنة وتحولاتها، كأن يُتقن مهارات الحاسوب والاتصالات المتطورة مثلا.
الهوية المهنية ـ وهي ما يتصل ليس بمهمات الصحفي وإنما بالقيم التي جاءت الصحافة لحمايتها وتحقيقها. وفي صلب مهنة الصحافة تحقيق حرية التعبير وضمان جريان حرّ للمعلومات باعتبارها شرطا ضروريا لاتخاذ القرارات واعتماد الخيارات الصحيحة في النظام الديمقراطي. فجريان حرّ للمعلومات ضروري للانتخاب وتحديد الموقف السياسي مثلا. كما أن الصحافة في أصولها الحديثة تتطلع إلى مراقبة السلطات كافة وحراسة الفكرة الديمقراطية من إمكانية حصول اعتداء أو مسّ بها من مراكز القوة في المجتمع والدولة. أخلاقيات المهنة تولد وتتطور سعيا إلى حماية هذه القيم وضمان احترامها.
الأعراف الاجتماعية العامة ـ وهي تلك القيم الاجتماعية العامة التي تقف مقابل تلك القيم التي كلّفت الصحافة بحمايتها. فالصحفي مكلّف بمراقبة أداء المسؤولين في الحكومة لكنه ملزم في الوقت ذاته بالحفاظ على الأسم الطيّب لهذا المسؤول وعلى كرامته باعتبارهما قيمتين دستوريتين يلزم القانون الصحفي وغير الصحفي عدم المسّ بهما. ويُفترض أن تلتزم الصحيفة، مثلا، بمبدأ حرية التعبير لكنها لا تستطيع أن تنشر حثا على العنصرية والكراهية من شأنه أن
يؤدي إلى تهديد السلامة العامة. معنى ذلك أن الأخلاقيات المهنية تتشكّل، أيضا، على وقع الأعراف الاجتماعية وأحكام القانون العام أو في حوار معه. فالصحافة عموما ـ هنا وفي مواقع أخرى من العالم الديمقراطي ـ تتمتع بحق شبه مطلق في التكتم على المصادر الصحفية سوى في حالات نادرة أبرزها تهديد الأمن العام بشكل مؤكّد.
إذن، هناك ثلاثة منابع للأخلاقيات الصحفية تستمدّ منها المهنة أصولها وأعرافها وقواعدها. والأخلاقيات الصحفية مكلّفة، أولا وأخيرا، بتوفير الإجابة المحكمة والنهائية ـ نظريا على الأقلّ ـ للسؤال العملي المطروح على كل صحفي بخصوص السلوك اللائق والمناسب الذي ينبغي اعتماده في هذه الحالة أو تلك. وهدف نظام الأخلاقيات الصحفية في منتهاها هو ضمان التزام الصحفي بالحقيقة والمهنية وبقواعد الإنصاف. ونؤكّد هنا أن الحديث هنا هو عن المثال الأعلى المأمول للسلوك المهني للصحفي. بمعنى، أنه السقف الأعلى المتوخّى من الصحفي في أدائه المهني. وافتراض الحد الأعلى يتضمن افتراضا آخر هو الحدّ الأدنى. وهي المساحة التي يتحرّك فيها الأداء الصحفي عادة. في قطب، الحدّ الأعلى من الأخلاقيات، وفي القطب المقابل الحد الأدنى منها. أما خارج هذه المساحة فيكمن للصحفي حدّ القانون العام. فقد يخرق الصحفي أخلاقيات المهنة دون أن يتورط في مخالفة القانون. مثلا، قد يكتب مراسل صحفيّ تقريرا لا يتضمن كل الحقيقة وكل التفاصيل. وهذا خرق لأحد أخلاقيات الصحافة القاضية بأن يلتزم الصحفي بالوقائع والحقائق لحدث ما. إلا أن هذا الخرق لا يعني أن الصحفي خرق القانون العام. كذلك فإن كشف صحفي عن مصدر معلوماته خلافا لما اتفق عليه مع هذه المصادر يشكل مخالفة لأخلاقيات المهنة لكنه لا يُشكّل مخالفة قانونية. بمعنى، أن مخالفة أخلاقيات المهنة في حدودها الداخلية أو في حدود "هويتها"، وإن اعتُبرت مرفوضة، لا تعني أن الصحفي خالف القانون العام.
لم نوضّح الفارق بين خرق أخلاقيات المهنة وبين خرق القانون للحثّ على عدم الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحفية بل للتأكيد على وجود حالات خرق للأخلاقيات تُفضي بصاحبها إلى المحاكمة. وهي الحالات التي تتشكل فيها الأخلاقية الصحفية من أحكام القانون العام أو من التقاطع بين القيمة الاجتماعية التي تحميها الصحافة وتكرسها وبين قيمة أخرى تكرسها القوانين العامة أو الدستورية. فإحدى الأخلاقيات الصحفية ألا يمسّ الصحفي في عمله كرامة إنسان ما. وإذا حصل ذلك يكون الصحفي قد خرق أخلاقيات المهنة وورّط نفسه في إشكال قانوني. فالشخص الذي مُسّ في كرامته بسبب النشر غير الصحيح أو المسيء قد يقاضي الصحفي ويطالبه بالتعويض عن الضرر الذي لحق به استنادا إلى قانون منع القذف والتشهير. وقد يجد الصحفي نفسه مطالبا بالتفسير أمام المحكمة في حال نشر مادة دون التأكّد من المعلومات التي زوّده بها المصدر. فلنفترض أن مصدرا صحفيا زوّد صحفيا يعرفه بمعلومات كاذبة عن سرقة أموال عامة في مؤسسة ما. ولنفترض أن الصحفي سارع إلى النشر دون التأكّد من صحة معلومات المصدر ليتضح أنها مجرّد تلفيق من خصم سياسي، عندها قد يُقاضى الصحفي بتهمة النشر المسيء والمضلّل. وهي مقاضاة كان يُمكن منعها لو أن الصحفي التزم بقواعد المهنة وفحص المعلومات وتأكّد من صحتها قبل النشر.
إذن فإن خرق الأخلاقيات الصحفية في بعض الأحيان يُفضي إلى مقاضاة الصحفي الذي أحدث الخرق. وهو ما يحصل عندما يتمّ الخرق لقاعدة أخلاقية صحفية تتطابق مع أحكام القانون العام. أما الخرق الداخلي للأخلاقيات فهو لا يُعفي الصحفي من عبء تفسير خرقه. فهو ملزم بالتفسير أمام مؤسسته الصحفية وأمام نقابته إذا كان منظما في نقابة صحفيين. وعلى غرار مهن أخرى، سيكون الصحفي المتهم بالخرق عُرضة لمحاكمة تأديبية داخل مؤسسته أو لإجراء مماثل من النقابة التي ينتمي إليها في حال قُدّمت ضده شكوى ووجدت ذات مصداقية. والخرق الذي قد يقوم به صحفي فرد قد تقوم به صحيفة أو مؤسسة صحفية تخضع للمعاملة ذاتها. والفارق هو أن الإجراء التأديبي على الصحيفة يأتي من هيئة صحفية تنتمي إليها الصحيفة مثل "مجلس الصحافة العام" في الحالة الإسرائيلية.
هناك جانب مهم في نظام الأخلاقيات الصحفية وهو المتصّل بمركز القوة الذي يُمكن أن يتطور للمؤسسة الصحفية أو للصحفي. فإذا قلنا أن الصحافة في إحدى مهماتها الأساس هو نقد السلطات أو كشف الحقيقة، فإن هذه المهمة تؤسس لمركز قوة تتمتع به الصحافة أو الصحفي. وكثيرا ما تُنسب للصحافة قوة تدمير مسؤول سياسي أو شركة اقتصادية في حال وضعته على مِهدافها. وكثيرة هي تلك الأحاديث عن تقارير صحفية أودت بمسؤول أو أسقطت حكومة وهو أمر، وإن قللنا من نفاذه وصحّته، لكنه يشي بقوة تمتلكها الصحافة، ونتيجة لذلك الصحفي، أيضا. وهذا مركز خطر، بمعنى أنه قابل للاستخدام على نحو لا يخدم فقط القيم الاجتماعية التي كلفت الصحافة بحمايتها أو تحقيقها وإنما نقيضها، أيضا. وعليه، فإن قسما من منظومة الأخلاقيات الصحفية تُعنى بوجه خاص بتهذيب وتقييد قوة المهنة وتوجيهها نحو واجبها ومهماتها حصرا. فمن الأخلاقيات الصحفية ما يقضي بامتناع الصحفي عن الاستفادة من مركزه القوي في تحصيل قيمة مالية من غير مشغّله أو خدمة مجانية! ومن الأخلاقيات ما يمنع ابتزاز موقف أو قرار من مؤسسة أو مسؤول. بمعنى أن الأخلاقيات موجهة في هذا المستوى إلى حصر قوة الصحافة في حماية ما اؤتمنت عليه من قيم اجتماعية فقط. هدف منظومة الأخلاقيات في هذا السياق تحديدا منع تشكّل فائض قوة لدى الصحافة أو الصحفي في مواجهة مراكز القوة الاجتماعية الأخرى قد يُغري باستخدامه في تحقيق أهداف وأغراض غير مهنية.
لأن هناك مثال أعلى هو منظومة الأخلاقيات الصحفية في مجتمع ما فإن هناك بالتوازي حالة مثالية للأداء الصحفي الملتزم نصا وروحا بمنظومة الأخلاقيات الصحفية بشقيها، ذاك الذي يُشتق من المهنة في حدود ذاتها وذاك المشتق بالتلاقي من العرف الاجتماعي المنصوص عليه في إطار القانون العام في مجتمع ما. وأظنّ أن مصلحة كل مهنة تتطلب من المنخرطين فيها أن يلتزموا بنظام أخلاقياتها. وذلك لخمسة أسباب: الأول ـ لأن الأمر مطلوب أخلاقيا. ثانيا ـ لأن من شأن ذلك أن يضمن للمهنة سمعتها ومكانتها الاجتماعية ويعزّز الثقة بها. ثالثا ـ لأن الأمر مطلوب لتعزيز حماية القيَم الاجتماعية الهامة التي تحميها الصحافة وتحققها لاسيما حرية التعبير والجريان الحرّ للمعلومات وحراسة الديمقراطية. رابعا ـ لأن من شأن ذلك أن يضمن للمنخرط في المهنة الصحفية أو للمؤسسة الصحفية سمعة طيبة ومكانة. خامسا ـ لأن من شأن ذلك أن يضمن أداء سليما للمؤسسة الصحفية المعنية يجنبها ويجنّب المجتمع توظيف موارد وقت ومال دونما حاجة إلى ذلك.
الأخلاقيات في السياق الصحفي الإسرائيلي
الصحافة الإسرائيلية على العموم لا تبعث الرضا فيما يتصل بالتقيّد بقواعد وأخلاقيات المهنة. بل أن ما تراكم من رصد لهذا الجانب في أداء الصحافة الإسرائيلية يُشير إلى كثير من القصور والعيوب، بل إلى مناخ عام طارد عن القواعد المهنية وأخلاقيات المهنة على العموم (كرمينتسر وسيموندز ـ يوعاز ص 212-218). هذه هي صورة الوضع في الواقع وفي المقارنة مع الوضع في كندا أو الولايات المتحدة. فوفق ما توصّلت إليه أبحاث أجريت في البلاد فإن نسبة عالية من الصحفيين في إسرائيليين لا يترددون في قبول مبدأ الوصول إلى معلومات بطرق ملتوية مثل الدفع المالي مقابلها. واتضح، أيضا، أن 55% من الصحفيين في البلاد يعتقدون أن التقارير الإخبارية تنطوي على أخطاء في الحقائق الموضوعية وأن الصحافة لا تلتزم بمبدأ التأكد من المعلومات.[1] كما أن الصحافة الإسرائيلية عموما لم تلتزم بالبند 14 من نظام الأخلاقيات الصحفية لمجلس الصحافة العام القاضي بحظر النشر العنصري والمحرّض. بل لم تلتزم بالبند 144ب لقانون العقوبات الذي يقضي بالأمر ذاته وهو أقلّ تشددا من سابقه. كما لم تلتزم الصحافة بمبدأ أخلاقي يقضي بعدم إدراج الانتماء المجموعتي للشخص الوارد في التقارير كأن يقال أنه عربي أو حريدي أو سفرادي كجزء من التفاصيل عنه (كرمينتسر وسيموندز ـ يوعاز ص 249-250).
يُمكن أن يُعزى الوضع في الصحافة الإسرائيلية إلى عوامل بنيوية فيها. فمن اللافت مثلا أن العمل في الصحافة لا يطلب من الراغب في خوض عباب هذه المهنة أي تأهيل أو إجازة. وهو ما يجعل حدود المهنة رخوة تماما وكل حديث عن أخلاقيات المهنة إشكاليا طالما أن الدخول إليها والخروج منها متاح في كل لحظة لأي شخص أراد ذلك. فمن الصعب أن نتحدث عن أخلاقيات مهنية في مهنة سائلة إلى هذا الحدّ لجهة سرعة الدخول والخروج أو تبدل هوية الداخلين الخارجين أو عدم وضوح الحدود أو طبيعتها الرخوة.
وأشير هنا إلى عامل تاريخي في بنية الصحافة الإسرائيلي يتمثّل في كونها حزبية أو قومية اضطلعت بدور حماية السلطة المتشكلة حديثا ودعمها في كل ما يتصل بالصراع القومي مع الفلسطينيين والعرب. وقد جسّد هذه الظاهرة ما اصطلح عليه في إسرائيل من "لجنة المحررين"[2] التي قبلت طوعا توجيهات السلطة في النشر حول قضايا وطنية خاصة في حالت
الحرب. بمعنى أن وضعا كهذا يعني الاحتكام أساسا للقضية الوطنية اليهودية وأحكامها بشكل يجعل من منظومة أخلاقيات المهنة زائدة أو مجرّد خيار آخر متاح وغير ملزم للصحافة
والصحفيين[3]. وقد جرّت الصحافة الإسرائيلية معها هذا الإرث الأخلاقي المزدوج ورقصت على إيقاعين، إيقاع المهنة ومشاقها ومتطلبات الالتزام الوطني بأحكامه.
لكن المتغيّر الأوضح الذي يُمكن أن يكون وراء العطب الأخلاقي في مهنة الصحافة في إسرائيل هو ملكية وسائل الإعلام. ففي البداية توزعت الصحافة وفق خارطة الأحزاب. ولكل حزب صحيفته وتوجهه وأيديولوجيته التي حكمت العاملين في هذه الصحيفة أو تلك. وعادة ما اشتغل في الصحيفة أناس من الأيديولوجيا ذاتها وكانوا ملتزمين كالصحيفة بمقتضياتها ـ وهو قول صحيح للصحافة العربية في البلاد في مرحلة من نشاطها. بمعنى أن الأخلاقيات الصحفية ربما تطورت وظلت بمساحة الأيديولوجيا ولم تتسع أكثر. هذا فيما ظلت وسائل الإعلام المبثوثة والمسموعة لردح طويل من الزمن بأيدي الدولة من خلال إخضاعها كلها تقريبا حتى أواسط الثمانينيات إلى سلطة البث وهي سلطة عامة تدار من خلال مسؤولين تعينهم الحكومة من خلال دوائرها وبأحكام قانون للبث الإذاعي والتلفزيوني. في مثل هذه الحالة كان من الصعب تطوّر أخلاقيات صحفية واضحة المعالم وقابلة للحياة.
أما النقلة المفصلية الأخيرة في ملكية الإعلام فقد أفضت إلى حالة من السيولة صعّبت إمكانية تطوير أخلاقيات مهنية نافذة. فقد تمركزت الملكية في أيدي قلة من عائلات ثرية بل إن هذه العائلات امتلكت منفردة أو بالشراكة أكثر من وسيلة إعلامية أو كان لها القول الفصل في أكثر من وسيلة. بمعنى أن الملكية تتميز الآن بالمركزية والتقاطع كجزء من حراك السوق الإعلامية واصطفاف مراكز القوة فيها. وهذه الوضعية أثرت في أربعة مستويات أساسية وانعكست سلبا على إمكانية تطور نظام أخلاقيات مهني.
في المستوى الأول ـ انتقل مركز الثقل في مهنة الصحافة من قيم ومبادئ صحفية مثل حرية التعبير ونقد السلطات الثلاث وحراسة الديمقراطية إلى تحقيق الربح الاقتصادي والتحول إلى آلية لجني الأرباح عبر انفلات مصطلح الرواج ـ rating ـ كأحد أبرز العوامل التي تحرّك الأداء الإعلامي في كل وسائله لأنه العامل المفتاح في استقطاب معلنين وإعلانات وما تعنيه من مدخول وربح. بل أن حرية الصحافة والتعبير تحوّلت من حرية القول إلى حرية مالك الوسيلة الإعلامية كمشغّل. وهو ما ظهر في قرار محكمة العمل القطرية في العام 1990 التي حددت أنه يحق للمالك منع نشر مقالات لا تروقه يكتبها عاملون في الصحيفة وأن يلزم الصحفيين العاملين عنده بكتابة مواد أو مواقف لا تروقهم.[4] وتجدر الإشارة أن هذا الموقف قد نشأ جراء بيع الشركة التي تصدر الصحيفة إلى مالك جديد اعتبرت توجهاته يمينية الأمر الذي أحرج
المحررين والكتاب ذوي التوجه اللبرالي واليساري في حرج حلّته المحكمة بالانتصار للمالك الجديد.[5]
في المستوى الثاني ـ تركّزت ملكية وسائل الإعلام في أيدي عدد قليل من الشركات الإعلامية التي هيمنت على سوق الإعلام وتحوّلت إلى مراكز قوة إعلامية واقتصادية لا ترى نفسها ملزمة ـ رغم التقييدات الحكومية لدى منح الامتيازات ـ بقيم مهنية بقدر ما ترى أن مصلحتها تقتضي المناورة بهذه القيم لأغراض غير مهنية لا سيما التأثير السياسي على مراكز صناعة القرار. وأهم ما في الأمر أنها لم تعد ملزمة للجمهور، من حيث انزياح مركز الثقل، بضمان حرية التعبير أو الجريان الحرّ للمعلومات بقدر التزامها بمسائل أخرى.[6] بمعنى أن الصحافة صارت في حلّ من القيم الاجتماعية التي يُفترض أنها مكلفة بحمايتها وتحقيقها. وهو أمر يصعب الالتزام بأخلاقيات المهنة كما عرفناها بل ويُملي نظام أخلاقيات جديدا لم يتبلور كفاية حتى الآن.
في المستوى الثالث ـ إن هذا التغيّر فرض زحزحة لمكانة الصحفي. فلم يعد صانع الرأي أو الوسيط بين الحقيقة وبين الناس، ولم يعد مبعوث الجمهور في مراقبة مراكز السلطة بل تحوّل إلى عامل لدى صاحب العمل ملزم بما يصدره الأخير من تعليمات. ويمكننا أن نفسّر على أساس هذا الفهم غياب نوع صحفي هام وهو الصحافة المحقّقة. فقد تقلّصت مساحة التحقيق الصحفي وتلك النزعة التي لازمت صحفيين مرموقين ودفعتهم إلى نقد السلطات والفساد وكشف فضائح تورط فيها مسؤولون حكوميون من مختلف الدرجات. واللافت أن ما بقي من صحافة محقّقة يستهدف أشخاصا عاديين وما قد يأتون به من أداء غير سوي كوسيط عقارات يحتال على زبائنه أو مكتب سفر خدع المسافرين. فمبدأ المصالح والسعي إلى تحقيقها يلجم الصحافة والصحفيين أو يجعلهما أسيرين لدى مالك الصحيفة ومصالحه الاقتصادية باعتباره كأي شركة في السوق تسعى إلى الربح ليس إلا!
في المستوى الرابع ـ إن التطور الجديد المتمثل في النقلة الاقتصادية للإعلام في إسرائيل عزز التنافس الإعلامي بين وسائل الإعلام وبين الصحفيين على كسب ودّ الجمهور من خلال الاندفاع نحو إعلام ترفيهي أو برامج الواقع التي تزخر بممالأة الجمهور وخطب ودّه بدل التأثير عليه أو تصميم آرائه من خلال تزويده بقدر أكبر من المعلومات والحقائق لتي يحتاجها. وترتبط نزعة الترفيه والتسلية في الإعلام الإسرائيلي بانفلات ثقافة السوق التي سلّعت الإعلام، أيضا. فإذا كانت مهمة الإعلام في السابق أن تجعل الإنسان أكثر مشاركة في الحياة الديمقراطية وأكثر وعيا فإن إعلام اليوم يسعى إلى تعزيز وجود الإنسان كمخلوق استهلاكي كما تحدث عنه
هيربرت مركوزا.[7] وهنا تبرز إحدى إشكالات الأخلاقيات الإعلامية اليوم وهي تحوّل المواد الإعلامية والبرامج إلى منصات تسويق وترويج معلن ومستتر لمنتجات أو خدمات. نشير هنا إلى حقيقة أن هذا التطور غير محصور في الإعلام الإسرائيلي بل يلفّ الإعلام في العالم كله. وما نراه من متغيرات جذرية في الإعلام الإسرائيلي في مستوى أدائه ونزعاته هو جزء لما حصل للإعلام في العالم. فالنقاشات الجارية في إسرائيل في هذا الباب سبقتها أو قابلتها نقاشات في كل العالم لا سيما في الأوساط الأكاديمية التي تدرس الإعلام أو تُعنى به.[8] فقد ضاعت الفروقات والحدود بين الصحافة والعلاقات العامة والتسويق والإعلان التجاري بعد عقود من الوضوح الذي انعكس في منظومة الأخلاقيات الإعلامية في إسرائيل وسواها. فقد دأبت كل وسائل الإعلام على الفصل بين المواد الإعلامية الدعائية وبين تلك المتعلقة بحرية الرأي والتقارير الإخبارية على نحو ما. إلا إن هذا الفصل أخلى مكانه في السنوات الأخيرة إلى عملية عكسية وهي تغيير الحدود وإضاعة خطوطها قصدا ليتسنى للإعلام والإعلاميين أن يتخطوا الحدود من حقل إلى حقل كجزء من حلول "الاقتصادي" في مركز العملية الإعلامية بدل "القِيَميّ"!
بناء على ما تقدّم فإن حديثَنا عن إشكاليات أخلاقية في الأداء الإعلامي في إسرائيل لا تنفصل في نهاية الأمر عن حديث التحولات الجذرية في حقل الإعلام المحلي والعالمي. فتغيرات في المهنة وهويتها ومضمونها تفترض تغيرات في أخلاقياتها، أيضا، كما هو حاصل في إسرائيل وعلى مدار العالم. وهو السياق الأشمل الذي تنشط فيه الصحافة العربية المحلية. فهل اختلف أداؤها في المستوى الأخلاقي؟
قصورات بنيوية منذ الولادة
الصحافة العربية في البلاد ولدت مع "تشوهات خلقية" أسوة بالإعلام العبري في البلاد. فهي ولدت حزبية متحزّبة ملتزمة أيديولوجيا، أو أنها ولدت كميديا دعائية من رحم مكاتب دعاية وإعلان أو أنها كانت ناطقة بالعربية كبوق للسلطة وأداة في يدها لفرض الهيمنة وغسل الدماغ. وفي الحالات الثلاث لم تكن قيم حرية التعبير وضمان الجريان الحر للمعلومات و"الحقيقة"، وحراسة الديمقراطية أو دَمَقْرَطَة المجتمع ضمن منظومة أخلاقياتها أو في صلب حركتها. بل ظلّت مثل هذه القيم ثانوية في جميع الأحوال. أما العامل المشترك الثاني بين النوعين الدعائي والحزبي من الإعلام هو ذاك الالتزام الكلامي بالدفاع عن الجماعة العربية هنا في إطار المواجهة التاريخية بين الدولة والأقلية العربية فيها. قابل ذلك، في مستوى الصراع نفسه، التزام عام بوجهة النظر الفلسطينية في الصراع مع إسرائيل. بمعنى، أن الانتماء القومي للصحف والصحفيين، أنتج مناخا إعلاميا توجهت فيه النزعة النقدية نحو الآخر، الدولة ومؤسساتها وكل
مراكز القوة فيها وفي كل الحقول. وقد أنتجت هذه الحقيقة نظاما أخلاقيا محدودا وجّه الإعلام والإعلاميين العرب هنا. فتحركوا التزاما بقضايا مجتمعهم وشعبهم. وبدا أن الأخلاقيات الصحفية في الإعلام العربي تُشتقّ من هذا المكوّن العام وليس من غيره، لا من حرية التعبير ولا من دمقرطة المجتمع ولا من نقد مراكز القوة فيه. لم تشذّ الصحافة العربية هنا عن باقي حقول الحياة في المجتمع العربي. فهكذا كانت الأمور في السياسة والأدب مثلا. فالناشطون فيهما انحكموا للإغراض الاجتماعية والفكرية نفسها.
لقد نشط الإعلام العربي في البلاد دون ناظم أو دون تأطير لا في مستوى وسائل الإعلام نفسها ولا في مستوى الصحفيين. بل شوهدت العلاقة أقوى بين الإعلام العربي وبين الأطر الصحفية العبرية القائمة في البلاد. فصحفيون عرب انضموا إلى نقابة الصحفيين العامة وأساس الحوار تم بين مؤسسات صحفية عربية وبين الصحافة باللغة العبرية. نجم هذا الوضع عن كون الإعلام العربي، وإن كانت له لغته الخاصة من حيث اللسان والتوجه العام، ظلّ قاصرا عن تكوين هوية مهنية يُمكن أن تتطور إلى أخلاقيات وقواعد عمل وأصول. بل أن كل ما ادّعاه هذا الإعلام من قيم ومضامين نقدية وقضايا مبدئية ادّعاه مقابل الدولة ومؤسساتها، أي مقابل المجتمع الآخر، ولم يدّعيها أو يدافع عنها في علاقته بالمجتمع العربي الذي ينشط فيه. وهذا ما أنتج وضعا فيه من المفارقة الكثير. فكل ما دافع عنه الإعلام العربي في علاقة المجتمع العربي مع الدولة ومؤسساتها وكل القيم التي دافع عنها في هذه المساحة لم تحضر في هذا الإعلام ولم تبرز كمواضيع في علاقة هذا الإعلام بمجتمعه. هكذا كان التوجّه العام للإعلام العربي والإعلاميين مع متغيرات ناجمة إما عن الخلاف السياسي أو التجاري بين المؤسسات الإعلامية وبين جهات في المجتمع، أو بين المؤسسات الإعلامية نفسها.
انحكم الإعلام العربي تاريخيا لمبدأ المصلحة التجارية لمكتب الإعلانات والدعاية مالك الصحيفة، أو لمبدأ حزبي أو عقائدي يضيق غالبا أو يتسع فيما ندر. وكان لكل مؤسسة صحفية أجواؤها دون أن تتطور الأجواء إلى أخلاقيات يُعمل بها. بل أمكننا أن نرى أن المؤسسات الصحفية شكّلت بفعل ديناميكا المنافسة التجارية بين الصحف ابنة مكاتب الدعاية، وبفعل ديناميكا المنافسة السياسية في الصحف ابنة الأحزاب حالة جفاء أو قطيعة بين الصحفيين العاملين فيها. وأستطيع أن أؤكّد بناء على تجربتي محررا في الصحافة الحزبية ـ في الاتحاد لقرابة 12 عاما ـ والتجارية ـ في صحيفتين على الأقلّ ـ وبناء على شهادات زملاء لي ومعرفة ميدانية بالوضع ـ أن العلاقات بين العاملين في حقل الإعلام اتسمت بغياب الحوار أو أي نوع من العلاقات المهنية. وهي حالة تنعدم فيها إمكانية الحديث عن تطوير منظومة أخلاقيات. بل أن "الأخلاقيات" الوحيدة التي تطورت هي تلك النابعة من ديناميكا إشكالية فقد فيها الصحفي أحيانا حرية التحدث مع زميل له من صحيفة أخرى!
من هنا يصعب علينا التحدث عن أخلاقيات عمل في الصحافة العربية خاصة أن قسما منها هو صحافة سلطوية ناطقة بالعربية تفصلها عن مؤسسات صحفية "ملتزمة" أيديولوجيا وانتماء. أي إن عوامل الفرقة بين المؤسسات الإعلامية والإعلاميين على السواء وعامل التنافس السياسي الحزبي أو التجاري منع كل إمكانية لتطور مهنية إعلامية عربية أو حدود واضحة لحقل واضح
المعالم. وليس صدفة أن يأتي الحديث عن ذلك بمبادرة مركز إعلام بتأخير كبير زمنيا ومن حيث احتمالات نجاح ذلك في الممارسة اليومية، وهو الامتحان الحقيقي لمنظومة أخلاقيات أو لميثاق شرف المهنة الإعلامية.
نقول هذا وفي الخلفية تلك المتغيرات الجذرية في الإعلام بشكل عام. وهي متغيرات عاصفة لا تتيح تطوير أخلاقيات المهنة كما عهدناها كحتمية لجملة قيم اجتماعية منبثقة عن فكرة الديمقراطية ووجوب تعزيزها وتدعيم مبناها العام. فما دامت هذه القاعدة القيمية للإعلام قد تضعضعت تماما في بعض المواقع فإنه سيتعذّر على المعنيين أن يُطوّروا أخلاقيات لمهنة الإعلام والصحافة إلا بما يتفق مع هويتها الجديدة وهي هوية اقتصادية في أساسها.
للتلخيص: أخلاقيات ولكن!
إحدى الفرضيات التي كانت سائدة لسنوات في عالم الصحافة وحرية التعبير أن تعدد المنابر الإعلامية يُفضي دائما إلى تعدد في الآراء وإلى مقاربة الحقيقة أكثر. ومن هنا لا تزال بعض الدول تدعم منابر إعلامية ومجلات وصحف ـ الموديل الفرنسي أو الموديل الفنلندي ـ لمنع إغلاقها على خلفية المصاعب المالية. لكن يبدو أن هذه النظرية قد فقدت معناها في العقود الأخيرة بفعل تحولات في مبنى الإعلام ووظائفه.
إن تعدد المنابر الإعلامية ـ وهو أمر محمود في المحصّلة ـ لم يقرّبنا من حقيقة، ولم يسهم في تعدد الآراء أو في مساعدة المواطن على اعتماد خيارات أفضل أو اتخاذ قرارات أسلم بل أفضت على الغالب إلى "قصورات سوق" متتالية لم يحصل الجمهور فيها على الحقيقة أو على التفاصيل الكاملة لغرض اتخاذ القرارات واعتماد الخيارات. بل يبدو لي أن كثرة المنابر زاد من خلط الأوراق ومن الضباب. بل أن هذه الكثرة في المنابر لم تؤد إلى أبسط الأمور المأمولة من الإعلام وهو نقد السلطات ومراكز القوة وما يدور في أروقتها. بل رأينا هذه المنابر بالذات تتحول بنفسها إلى حليفة لهذه السلطات وجزءا من لعبتها فيما يتعلق بحجب معلومات أو توفيرها.
قلنا أن المشهد هو مشهد عالمي وليس عربيا محليا أو إسرائيليا. فقد تغيّرت وظيفة الإعلام بشكل عام في المجتمع المُعوْلم مع طغيان "الاقتصادي" على الحقول الأخرى للنشاط الإنساني. ومن هنا فإن الإعلام صار مشروعا اقتصاديا بامتياز متنازلا عن عناصر أخرى كانت المشاريع الإعلامية تتضمنها أو تأخذها على عاتقها. فإذا كنتُ درّست، قبل عقد تماما، مادة الإعلام على أن الصحافة "كلب حراسة للديمقراطية" وأنها "السلطة الرابعة" التي تقوم بمهمة مراقبة السلطات الثلاث الأخرى لجهة حماية حقوق الإنسان والمواطن ودفع القضايا النبيلة والدفاع عن قيم الديمقراطية، فإنني مضطر اليوم لتغيير المراجع واستبدال هذه النظريات عن
الإعلام بنظريات أخرى تتحدث عن الرواج "Rating"، وعن التسويق وعن المعادلة المثلى لتحقيق الرواج وما إلى ذلك من مفاهيم ومصطلحات تتعلّق بلغة السوق والاقتصاد.
إن إخضاع العمل الإعلامي لقوانين السوق أفضى بشكل سريع إلى الاستغناء عن قيم إعلامية مات لأجلها صحفيون أو قمعوا أو سُجنوا. بل يميل الإعلام اليوم وبشكل عام إلى دخول خانة الترفيه والتسلية و"الصحافة الصفراء". وهي تقوم على الذهاب بالحدّ الأدنى المشترك ـ عنف وجنس وقوقلة وجريمة أو برامج الواقع ـ إلى مراتب متقدمة متخليا عن الصحافة المحققة والمتابعة والمحاربة والجدية التي تنطلق من فهمها لدورها كمراقبة للسلطة والمؤسسة ورموز الحكم ومدافعة دائمة عن حرية التعبير والحقوق العامة. في هذا الإطار يُمكننا أن نفهم الصحافة العربية المحلية التي بدت منخرطة تماما في لعبة السوق تبيع وتشتري أو تُباع وتُشترى كأي قوة أخرى في السوق غير قادرة على صنع شيء جدي.
لا يُمكننا أن نتوقع من الصحيفة أو المؤسسة الإعلامية، في مثل هذا الوضع، ما توقعناه عندما كان الإعلام حلقة أساسية في الفكرة الديمقراطية وفي انتظام المجتمعات. إذ لم يكن بالإمكان تخيّل مجتمع متطور متنور بدون صحافة حرة تشكل أشعة شمس تخترق الحُجُب وتهتك المستتر وتوقف الضالعين بالفساد أو بالقمع عند حدهم. علينا أن نقرّ أن الوظيفة الاجتماعية للإعلام تغيرت على نحو واضح في العقود الأخيرة ليرتبط الإعلام بالدورة الاقتصادية وما تنتجه من أفكار وأنماط أكثر من ارتباطها بالفكرة الديمقراطية وما يترتب عنها من قيم وحريات وحقوق. بمعنى، أنها لم تعد تحمي أو تحقّق مبادئ هي في أساس كل مجتمع ديمقراطي بل تحوّلت إلى قوة اقتصادية في السوق. وهو ما يجعل المؤسسة الصحفية اليوم مثل أي شركة تنشط اقتصاديا ولا تتوخى حماية قيم وأسس المجتمع الديمقراطي. في مثل هذه الحالة سيكون من السذاجة أن نتوقع من الصحافة منظومة أخلاقيات تشذّ عن تلك التي نتوقعها من شركة لإنتاج الحواسيب النقالة أو من شركة خدمات مالية.. لقد انتهت بشكل عام المهمة التاريخية للإعلام كما عرفناه ودرسناه حتى سنين خلت وبات علينا أن نعرّف وظيفته الجديدة والمهمات المترتبة عنه. وهي مهمات قد تستدعي إنتاج أخلاقيات مهنة مأخوذة من الفكرة الاقتصادية ومقتضياتها وليس من الفكرة الديمقراطية. أو للدقة، أمكننا أن نقول أن الصحافة بوجه عام تنازلت عن كونها وكيل لتتغير الاجتماعي من خلال اعتماد مواقف النقد والتفكيك وأوكلت المهمة إلى مؤسسات المجتمع المدني واكتفت بوظيفة النشر عن... أو نقل المواقف. بمعنى أنها خرجت من دائرة حماية مكتسبات اجتماعية وحريات عامة وتركت الأمر بسبب من الانزياح الاقتصادي لمؤسسات المجتمع المدني.
إنها وجهة الأمور بشكل عام والسيرورة الأساس في العالم وهنا، أيضا. لكن إلى أن تصير هذه السيرورة هي صورة الوضع النهائية سيظل على جانبيها صحافة وصحفيون أو موديلات أخرى تعمل وفق وجهة النظر الكلاسيكية للعمل الإعلامي كحامي وضامن للفكرة الديمقراطية وقيم اجتماعية هامة لاسيما الحريات والحقوق. وستظل العلاقة بين السيرورة وأطرافها علاقة تأثير وتأثّر تنعكس دون شك على "أخلاقيات" المهنة التي تغيّرت ولا بدّ أنها ستتغير أكثر فيما سيأتي.
المراجع:
1 ـ كشير آسا، "מה היא אתיקה מקצועית", في كتاب "מבוא לאתיקה מקצועית"، 2009، ص 1-20.
2 ـ مردخاي كرمنيتسر ويعيل سيموندز ـ يوعاز، "אתיקה בתקשורת", في كتاب "מבוא לאתיקה מקצועית"، 2009، ص 209-254.
3 ـ ذبيان سامي، "الصحافة اليومية والإعلام"، بيروت، 1987، ص 375-392.
4 ـ عوزي بنزيمان، محرر، "איפה טעינו- עיתונאים מתבוננים על עצמם"، 2007، ص 23-179.
5 ـ دان كسبي ويحيئيل مور، "אמצעי תקשורת בישראל 1948-1990", 1993, 144-195, 200-224, 230-247.
6 – "תקנות האתיקה המקצועית של מועצת העיתונות בישראל"، كما وردت في كتاب يريف بن إليعيزر: "הממלכה השביעית-סוגיות בתקשורת המונים"، ص 145-154.
7 ـ رفائيل كوهن ألموغ، "המלכוד הדמוקרטי"، ص 329- 375.
8. رئيم سيغف، "חופש הביטוי-הצדקות וסייגים"، ص 80-128.
[1] تسفاتي يريف وأرن ليبيو، نتائج بحث "מחקר: העיתונאים הישראלים מעניקים ציון נמוך לתפקוד התקשורת הישראלית", من كتاب: عوزي بنزيمان، محرر، "איפה טעינו- עיתונאים מתבוננים על עצמם"، 2007، ص، 34-47.
[2] "لجنة المحررين" ـ هي اللجنة المؤلفة من محرري الصحف التي شكلت أساس الصحافة ومركزها و وقبلت على نفسها طوعا التنسيق مع ممثلي الحكومة ـ خاصة الجهات الأمنية ـ والالتزام بتوجيهاتها في حالات معينة فيما يتعلق بالنشر الصحفي أو عدمه أو بطريقة النشر ومضمونه.
[3] أشير إلى أن استعمال "صحافة" و"صحفيين" يُقصد به، أيضا، إعلام وإعلاميين وأن الحديث في المقال عن صحافة يُقصد به الإعلام هذا علما بأننا استعملنا لفظة "إعلام"، أيضا.
[4] قرار محكمة العمل القطرية من العام 1990، (دب"ع نج/3-223 شركة فلستاين بوست م.ض ضد جوانة يحيئيل، ص 451-453).
[5] من المفيد مطالعة تقرير لجنة أونكر التي كلفها مجلس الصحافة العام بدراسة حال الصحافة في إسرائيل وأعلن تقريرها في العام 1996.
[6] تقرير لجنة أونكر أوضح هذه المسألة بشرح مفصّل.
[7] أنظر كتابه "الإنسان ذو البُعد الواحد" المخصّص لنقد البُعد التسويقي الترويجي في الإعلام.
[8] يُمكن الاطلاع على النقاشات في حقل الإعلام في إسرائيل جراء التحولات الجذرية في مبنى هذا الإعلام ومضامينه ووظائفه ونزعاته في كتاب "איפה טעינו – עיתונאים מתבוננים על עצמם", عوزي بنزيمان، محرر 2007، إصدار المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. والكتاب عبارة عن شهادات شخصية لصحفيين ومحررين وأكاديميين عاملين في المجال تحاول الوقوف على زوايا مختلفة للتغيّر الذي شهده الحقل الإعلامي في كل مستوياته.