نخاسة ذوي القربى أشد مضاضة!
2011-07-20
ضمن مشروع "مضمون جديد" لكتابة التحقيقات الصحفية، المشترك بين مركز إعلام (الناصرة)، عمان نت (عمّان) وشبكة أمين (رام الله) وباشراف الصحافي بسام العنتري من الأردن. أعدت الزميلة روزين عودة (من صحيفة كل العرب وموقع العرب) التحقيق التالي: العاملات العربيات في إسرائيل: نخاسة ذوي القربى أشد مضاضة!
كانت قد انقضت نحو ساعة منذ انطلاق الحافلة من الناصرة، عندما بدأت الشمس تبزغ من وراء الأفق وترسل أشعتها عبر النوافذ لتسقط مسترخية على وجوه العاملات اللائي راح بعضهنّ يرقب لا شيء في البعيد بعيون مجهدة فقدت بريقها.
الطريق الشاقة إلى العمل
وفي الجهة البعيدة عن الشمس، كانت هناك عاملات ألقين برؤوسهن على المساند واستسلمن لإغفاءة يعلمن في قرارتهنّ أن لذتها لن تلبث أن تتبدد لتحل مكانها مرارة يوم طويل آخر من "الإستعباد" في المصنع الذي سيستغرق وصوله ساعة أخرى.
كانت الأجواء في الحافلة كئيبة ورتيبة كرتابة هدير محركها، ولم يكن يقطعها في ذلك اليوم سوى حديث هامس دار بيننا وبين عاملة شابة جلسنا معها مباشرة خلف السائق الفضولي الذي راح يسترق النظر عبر المرآة.
لم يكن بمقدور السائق استيضاح حديثنا، لكن العبارات المنفلتة منه إلى أُذنه كانت تنبئه بمشاعر تبرم وسخط الشابة من أوضاع العمل. العاملة "ع" طلبت أن لا نذكر اسمها صراحة، لأن من شأن ذلك أن يفقدها عملها الذي حصلت عليه بشق الأنفس وبعد تنازلها عن الكثير من حقوقها، وليس أقلها الأجر الذي لا يكاد يتجاوز نصف أجر العاملة اليهودية.
ومسألة الحصول على العمل بالنسبة للعربيات في اسرائيل ليست سهلة أبداً في ظل العنصرية الرسمية الممنهجة ضد العرب عموماً، فضلاً عن البطالة المستفحلة في صفوفهم، وما يتبعها من ارتفاع لمعدلات الفقر.
نسبة البطالة
وبحسب أحدث تقرير لجمعية "سيكوي" الحقوقية الإسرائيلية، فإن نسبة البطالة بين النساء العربيات القادرات على العمل تتجاوز 80 بالمئة، في مقابل 44 بالمئة لليهوديات. ويبلغ عدد النساء العربيات القادرات على العمل في إسرائيل نحو 350 الفاً.
وأرجع تقرير سيكوي لارتفاع في نسبة البطالة هذه إلى حرمان المدن والقرى العربية من أماكن العمل والمناطق الصناعية والتشغيلية والمؤسسات الرسمية والعامة.
ويشكل العرب ما نسبته 21 بالمئة من السكان في إسرائيل الذين يناهز عددهم سبعة ملايين. وتبلغ نسبة البطالة بين العرب عموماً (ذكوراً وإناثاً) اكثر من 17 بالمئة، مقابل 6,6 بالمئة لليهود. ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فإن هذه البطالة المرتفعة أسهمت في زيادة نسبة العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر في إسرائيل الى 47.6 بالمائة.
تجربة فظيعة
في الحافلة، راحت "ع" تحدثنا عن تجربتها المريرة مع المصانع والمقاولين العرب، منذ اضطرارها الى دخول سوق العمل عندما كانت في السابعة عشرة بهدف مساندة عائلتها بعد وفاة والدها.
والمصنع الذي كنا متجهين اليه هو الثالث الذي تعمل فيه "ع". وقبله كانت قد عملت في مصنعين آخرين ذاقت فيهما الأمرين على يد صاحبيهما اليهوديين، وكذلك على يد مقاولين من أبناء جلدتها العرب اللذين تعاملا معها ومع آلاف النساء المحتاجات للعمل بمنطق لا أقل من أن يوصف بالنخاسة.
قناة المقاولين
ويبدو من شبه المستحيل بالنسبة للعربيات الحصول على عمل في اسرائيل دون المرور عبر قناة المقاولين، سواء كانوا أفراداً أو شركات للقوى البشرية. ويقوم المقاول بمهمة تجنيد العمال نيابة عن المصنع، ويتقاضى لقاء ذلك من المصنع مبلغاً متفقاً عليه عن كل عاملة بحسب الساعات التي تعملها، وهو حسب القانون ملزم بأن يوصل العاملات من والى منازلهنّ.
وفيما تقوم بعض المصانع بنقد العاملات أجورهن مباشرة، إلا أن معظمها يوكل هذه المهمة أيضاً الى المقاولين الذين يقوم بعضهم باقتطاع جزء من الأجور قبل تسليمها الى العاملات.
وهم آنذاك يجبرون العاملات على توقيع قسائم تظهر تقاضيهن أجورهن كاملة حسب قانون الحد الأدنى للأجور، تحت طائل طرد من ترفض التوقيع. وبالعودة الى "ع"، فهي تصف تجربتها في المصنعين اللذين عملت فيهما سابقاً بأنها "فظيعة، سيئة حتى أبعد مدى ممكن لأي إنسان أن يتصوره".
وتضيف:" المصنع الأول الذي كان يبعد ساعتي سفر عن الناصرة، وحصلت على العمل فيه عن طريق مقاول قال أنه سيعطيني 150 شاقلاً في اليوم الواحد (حوالي 44 دولاراً). كنت سأطير من الفرحة عندما سمعت ذلك، فأي فتاة في عمري كانت ستحلم بهذا المبلغ، لكن لاحقاً اكتشفت أنه يعطيني اقل من ذلك بكثير".
الحد الأدنى للأجور
ويضيف زياد عودة رئيس مجلس العمال في لواء الناصرة:" ويبلغ الحد الأدنى للأجور في إسرائيل نحو 160 شاقلاً يومياً (حوالي 46 دولاراً)، وكانت "ع" توقع على قسيمة الإستلام الشهرية للراتب على أساس أنها استلمت هذا المبلغ، وأنها عملت أيضاً ثماني ساعات فقط بحسب القانون، رغم أنها فعلياً كانت تعمل لنحو 13 ساعة كما تقول. لم تكن "ع" تستطيع الإعتراض، فإما أن توقع أو أن تخسر عملها كما تقول.
وتتابع:" خلال هذه الشهور الأربعة، فقدت حياتي الاجتماعية وثقتي بنفسي جراء الإهانات المتلاحقة التي أتعرض لها في المصنع دون أن أكون قادرة على الرد أو التذمر خشية فقداني لعملي. وكنت أعود للمنزل منهكة، راكضة نحو السرير الذي سبقتني إليه كل حواسي، حتى أنني عندما أستيقظ أشعر وكأنني لم أنم أبداً".
طفح الكيل
بعد أن فاض بها ولم تعد قادرة على الإستمرار، قررت "ع" أن تترك عملها في ذلك المصنع، وبعد فترة قصيرة عملت في مصنع آخر، لكنه لم يطابق التوقعات تماماً.
صحيح أن الراتب أعلى بقليل في المصنع الثاني، ولكن ذلك ترافق مع "ذل ومهانة أكثر أيضاً". ولم تلبث العاملة الشابة أن تركت العمل في هذا المصنع أيضاً عندما اكتشفت أن أصحابه "يطلبون من العاملات أن يقمن العلاقات معهم، ومن توافق يرتفع راتبها بما يقارب 500 شاقل (حوالي 146 دولاراً) ومن ترفض تُذل وتُهان وتعمل أضعاف المطلوب منها، أو يتم طردها".
راحة نفسية لكن ليست مادية
"ع" تعمل اليوم في المصنع الذي نحن متجهون اليه، وهو ليس أفضل من غيره من ناحية الراتب، لكنها على الأقل مرتاحة نفسياً. لدى وصول الحافلة الى المصنع، ترجلت منه العاملات بتثاقل وكأنهن يسقن الى مذبح. وفيما هن كذلك، كانت تتعالى أصوات المسؤولين وهم ينهرونهن ويحثونهن على الإسراع في الدخول والبدء في العمل.
وعلى امتداد اليوم الطويل لم تكن أصوات المسؤولين تهدأ، وكذلك لم تكن أيدي النسوة المنهكات تكف عن الحركة بشكل شبه آلي، لعل ذلك يجنبهن المزيد من الإهانات.
وفي المساء، انسلت النسوة من المصنع عائدات باتجاه الحافلة وإحداهن تكاد تقع في مكانها لشدة التعب. وقبيل الوصول الى الناصرة، قالت العاملة الشابة "ع" وهي تومئ برأسها إلى أحد الموظفين التابعين للمقاول، والذي صعد الى الحافلة للتاكد من اكتمال عدد العاملات:" أنا حزينة جداً لأجل اللواتي لا زلن يعملن تحت رحمة من باع ضميره، وفقد أخلاقه".
لا حقوق
حسب القانون، وكما تؤكد سامية ناصر مسؤولة المنتدى النسائي فرع الشمال في نقابة معاً العمالية، فإن:" المقاول لا وظيفة له ولا أجرة، ولو اشتكت الفتاة عليه فإن القانون يضمن لها كل حقوقها".
لكنها تستدرك قائلة:" طبعاً قليلات جداً من يشتكين. وفي هذا الوضع لا نستطيع حل المشكلة، هذا غير أن معظم الأهالي لا يحبذون هذه الطرق كتقديم الشكاوى وأمور مشابهة، فلا يطالبون بحقوق بناتهم، والشيء المؤسف عندما يكون المقاول من العائلة، فيعتقد الأهل أن المقاول ابن العائلة أفضل من غيره".
لكن ناصر تؤكد أن:" الحقيقة غير ذلك، فالمقاول ابن العائلة يعمل كشرطي على الفتاة، ويذلها ويهينها، وبالتالي فإن تفكير الأهل المتخلف يساهم في استغلال العاملات".
وتضيف إن المقاول:" يأكل جزءاً كبيراً من رواتب العاملات، والحال نفسه مع شركات القوى البشرية.. فمصدر الراتب من شركة القوى البشرية وليس الشركة أو المصنع أو المؤسسة الحاضنة، وبالتالي المصنع ليس مسؤولاً عن العاملات".
وتوضح:" على سبيل المثال، من تعمل في الزراعة عن طريق مقاول، فهي غير مؤمنة صحياً، ولا تأخذ قسائم عمل شهرية، وتعمل دون تقاعد، وإذا أصيبت لا سمح الله في العمل فالتأمين الصحي لا يعترف بها. فهي من ناحية قانونية ليست موجودة كعاملة، أي بدون اثباتات رسمية أو قانونية". وتتابع قائلة:" اليوم الغالبية تعملنّ عن طريق المقاولين الذين يحققون ثروة كبيرة على حساب العاملات اللواتي لا حول لهن ولا قوةّ".
قانون الغاب
وتؤكد الناشطة النسائية أن:" الفوضى الحاصلة ليست من المقاولين إنما من الدولة، التي سمحت للمقاولين بالدخول إلى خط العمل، حتى في البرلمان الذي يسن القوانين نجد أن هناك من يعمل عن طريق شركات القوى البشرية. وبالتالي نستنتج أن من يحكم الدولة هم أصحاب رؤوس الأموال". وتنهي سامية حديثها قائلة:" سوق العمل أصبح غابة، وقانون الغاب ما يسود هذا السوق".
ومن ناحيتها، تؤكد العاملة الاجتماعية هبه يزبك أن:" الاستغلال غير القانوني للفتيات من قبل المقاولين له تأثيرات جمة على الجانب النفسي والاجتماعي للفتاة وليس فقط الاقتصادي".
وتضيف:" نحن نطمح لدمج جميع الفتيات والنساء في مجتمعنا في سوق العمل، ولكن نرفض بشكل قاطع استغلالهن، إن كان عن طريق الأجر الزهيد وغير القانوني الذي يُسدد لهن مقابل عملهن أو من خلال تشغيلهن لساعات طويلة تفوق الـ8 ساعات يومياً، ناهيك عن التعامل غير الإنساني أحياناً وظروف العمل الصعبة".
وترى يزبك أن:" مثل هذه التجارب السلبية لاستغلال حاجة الفتيات للعمل، وبالتالي هدر حقوقهن من شأنها التأثير في نفوسهن وهن في بداية مشوارهن الحياتي والعملي، فهذا العمل هو بحد ذاته سبب كافٍ لتشعر الفتاة بالإهانة والذل والدونية".
وفي سياق تقريرنا هذا، حاولنا التحدث مع مقاولين، الا أنهم رفضوا، حتى أن أحدهم أغلق سماعة الهاتف لدى علمه بالموضوع الذي نريد الحديث حوله.
المقال على موقع المشروع العاملات العربيات